هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تصر السلطة اﻷردنية على تذكير الشعب بين فترة وأخرى بالعلاقة التقليدية بين السلطة والشعب، فرغم التقارب الواضح بين الحكومة والشعب نتيجة التلاحم الذي تحقق في أزمة كورونا والنتائج اإيجابية التي حققها التعاون الوثيق والقريب بين فئات الشـعب المختـلفة ومؤسسـات الدولة المدنية منهـا والحكومية، انقلبت الحكومة على تلك العلاقة الشفافة والحميمة بإجراءات تعسفية ضد نقابة المعلمين، ﻻ يمكن تفسيرها سوى باﻻستقواء على الشعب ومؤسساته المدنية واستعراضها للقوة.
تصعيد النقابة
ولعلنا هنا نسترجع كيفية تعامل وزارة الداخلية مع اعتصامات المعلمين في العام الفائت، التي لم تختلف عن ذات الطريقة اﻷمنية واستعراض القوة، بل والاستخفاف بكرامة المعتصمين، ولولا تصعيد النقابة لإجراءات اﻻعتصامات والإضراب عن العمل، ولوﻻ التكاتف المؤسساتي، والمناصرة الشعبية لقضية المعلمين العادلة، ﻻنتصرت القوة على الحق والسلطة الأمنية على إرادة الشعب.
ولعل السؤال القديم المتجدد ما زال مطروحا: من يقود الحكومة؟ هل هو رئيس الوزراء الواعد بالشفافية واحترام إرادة الشعب ومكافحة الفساد، الذي جاء إلى رئاسة الوزراء استجابة ﻻنتفاضة الشارع ضد الأحوال المعيشية الصعبة وظروف الفساد العام في البلاد، أم وزارة الداخلية واﻷجهزة اﻷمنية؟
السؤال منطقي ومشروع في ظل التناقض الواضح بين اﻷجندات والشعارات، وبين الأسلوب اﻷمني والتهديد الذي تتصرف فيه الحكومة في الملفات الخاصة.
نقابة المعلمين من أكثر النقابات ديناميكية وتعمقا في المجتمع الأردني، وتضم نحو مئة وعشرين ألف عضو، ينتخبون أعضاء نقابتهم بالتصويت الديمقراطي الحر، وهي بذلك تمثل إرادة الشعب أمام حكومة غير منتخبة، يتم تعيينها بناء على تفاهمات بين مراكز القوى في الدولة، وعلى رأسها بالضرورة الأجهزة الأمنية.
لهذا، كان التكاتف والتضامن مع نقابة المعلمين في قضيتها العادلة أمام الحكومة، ليس فقط لكونه مستحقا وعادﻻ، بل لأنه كان متوقعا ومعلوما لكل من يحاول قراءة القضية بعيدا عن النظرة الأمنية، ولكن السلطة ترفض على الدوام عدم فهم الشارع، وتصر على التعامل مع كل القضايا الشائكة بنظرة أحادية واحدة «القبضة الأمنية وفرض السلطة على الشعب».
ومما يزيد الطين بلة، قرار النائب العام منع النشر في قضية نقابة المعلمين، في تجاوزٍ آخر للدستور وتغوّل جديد على حرية التعبير واستقلال إرادة الشعب.
من المؤسف أنه كلما اقترب الشعب من الحكومة ذراعا ابتعدت عنه باعا، وكلما قرر الشعب التجاوز عن كل اإخفاقات والعديد من اإهماﻻت وإقناع نفسه أنه يعيش في أجواء ديمقراطية وحرية وأمن وأمان أفضل بكثير من غيره من الشعوب، ويقرر التعامل مع الواقع والقبول به، تصر الحكومة على تذكيره بطبيعة العلاقة التقليدية بين السلطة والشعب، بين السلطة والمثقف، بين السلطة والمعارضة؛ القمع وفرض الرأي بالقوة تحت ذريعة الحفاظ على هيبة الدولة، أو التجاوزات القانونية والإدارية، والتحريض، واتباع أجندات خارجية.
المشكلة أن الحكومة وأبواقها ممعنون في اﻻقتناع بأنهم من خلال استخدامهم للقبضة الأمنية هذه، يحرسون الوطن ويحفظونه من كل سوء، تماما كما يفعل الأب المتسلط حين يقرّع أبناءه ويتنمّر عليهم ويعنّفهم ويعاقبهم ظنا منه أنه يحسن صنعا، ويقوّم من سلوكهم ويحسن تربـيتهم!
قبل أن تسترسل رئاسة الوزراء ووزارة الإعلام في وعودها بالحديث عن دولة حريات ودولة مؤسسات وعن دولة المواطنة، على السلطة أوﻻ قبل كل شيء تغيير الفكر ذاته، تغيير العقلية والذهنية المخابراتية والأمنية، تغيير الشخوص الذين يعتقدون أن امتلاكهم للسلطات والصلاحيات واتخاذ القرارات، يخوّلهم استخدام كل ذلك لفرض آرائهم ومعتقداتهم التي تجاوز عنها الزمن منذ عقود.
إشعال فتيل اﻷزمات
إن وجود هذه الأشخاص وهذه العقليات في هذه المناصب، كفيل وحده بإشـعال فتيل اﻷزمات مع أي مواجهة مع المؤسسات المدنية، مهما كانت بسيطة أو عادلة وواضـحة.
نقابة المعلمين ليست منزهة عن اأخطاء والتجاوزات أو الخروقات الإدارية، وأفرادها أيضا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ولكن تجاوزات السلطة جعلت من النقابة رمزا لإرادة الشعب وللمواطن البسيط في مواجهة السلطة والتغوّل على الديمقـراطية والحريات، وهذا ما يدفع الشعب للوقوف مع المعلم ومع نقابة المعلمين في مواجهة اإجراءات التعسفية وتكميم الأفواه.
إجراءات الاعتقال التي رافقت إغلاق نقابة المعلمين، وتعليق نشاطاتها، مخزية وﻻ تليق بمؤسسة مدنية تمثل أطياف الشعب الأردني كافة، عدا عن أنها في المقام الأول ﻻ تليق بالدولة والحكومة التي تمثلها.
وهذا يدفعنا للتساؤل، إذا كان تعامل الحكومة مع نقابة المعلمين بهذا الشكل، فكيف ستتعامل الحكومة لو كانت هناك أحزاب سياسية حقيقية وفاعلة تعارض نهج الحكومة، وتقوم بتنظيم الاعتصامات واستخدام الوسائل الديمقراطية للتعبير عن رأيها؟!
وإذا كانت نقابة المعلمين الحالية تنتمي إلى تيار حزبي معين، فهذا ليس عيبا أو سببا يستدعي التحريض عليها، ألسنا دولة ديمقراطية تدّعي تشجيع العمل الحزبي، والانتخابات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير؟! فلماذا يضيق صدرنا حين ينجح تنظيم ما في الوصول إلى مناصب القيادة في مؤسسات الدولة، عن طريق صناديق الانتخابات؟!
في النهاية نقول: إذا كان الحفاظ على هيبة الدولة هو السبب المعلن وراء هذه اﻻعتقاﻻت واإجراءات كما صرحت الحكومة، فإن الحفاظ على هيبة الدولة لا يكون بالاستقواء على الشعب وممثليه ومؤسساته المدنية، بل بالحفاظ على حرية الرأي والتعبير، وتعزيز الوسائل الديمقراطية، والحفاظ على كرامة الوطن والمواطنين، بمحاربة الفساد والفاسدين الذين تغوّلوا على مقدرات الوطن والمواطنين، تكون بالانتصار لحقوق المواطنين البسطاء والضعفاء، ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة، بدلا من محاربة المواطن في لقمة عيشه، وملاحقة أصحاب البسطات والمشاريع الصغيرة!
للأسف ضاعت هيبة الدولة بأيديكم!
(القدس العربي اللندنية)