هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
علق موقع "VOX" الأمريكي على الاحتجاجات التي أعقبت مقتل "جورج فلويد" بالقول: "عنف الشرطة، والاحتجاج عليه، ليس جديد العهد، بل إنه يسبق المشاعر التي يغذيها ترامب على الأقل بـ401 سنة؛ منذ بداية العبودية الأمريكية، لكن منذ تنصيبه؛ عمل ترامب، هو وإدارته على ترسيخ مكان لعنف الشرطة في الحياة الأمريكية من خلال خطاباتهم وسياساتهم".
لم يكن بالإمكان المرور مرّ الكرام على ما جرى في الساحة الأمريكية خلال الاحتجاجات على مقتل "فلويد"، ليس لجهة مشاهد الحرق والنهب التي واكبتها وحسب، بل لجهة الخطاب الذي تبناه ترامب في مواجهة الموقف.
صحيح أن كل ما يتفوّه به ترامب في هذه المرحلة، وحتى الانتخابات الرئاسية في نوفمبر هو جزء من الحملة الانتخابية، أو يتعاطى مع ما يؤثر عليها، ومن ضمن ذلك مخاطبة غرائز مؤيديه، لكن ذلك لا يغيّر في حقيقة أنه يعكس بدوره حجم الانقسام في المجتمع الأمريكي، تبعا لمواقف الفئة التي يخاطبها.
كان فوز ترامب بالانتخابات قبل 3 سنوات تعبيرا عن شعور الكتلة الأكبر في الولايات المتحدة بالتهميش بعد سيطرة طويلة على الدولة منذ نشأتها، والكتلة التي نعنيها هي البيض البروتستانت (كل رؤساء أمريكا من هذه الفئة، ما عدا كينيدي الكاثوليكي، وأوباما الأسود)، والذين يشكلون ثلث السكان تقريبا (البروتستانت من كل الألوان حوالي 45%)، يليهم الكاثوليك البيض، ثم الهيسبانيك (كاثوليك أيضا)، يليهم السود.
لولا ذلك، لما كان بوسع رجل أرعن مثل ترامب أن يفوز في الانتخابات، ثم يواصل حصد التأييد من قبل تلك الفئة، رغم مسلسل حماقاته الذي لا يتوقف.
ما نقلنا في البداية عن الموقع الأمريكي صحيح تماما، فما جرى ليس جديدا، لكنه مع ترامب كان مختلفا من حيث الحجم، ما يدل على حماقته من جهة، وعلى شعور الكتلة البيضاء إياها بالحاجة إلى التكاتف من أجل استمرار سيطرتها على الدولة التي تمثل الشرطة إحدى أهم أذرعها السيادية، لا سيما أن نسبتها من مجموع السكان لم تتوقف عن التراجع منذ عقود.
يمكن القول إن أمريكا قد دخلت منحنى التراجع منذ عقد ونصف، وهي ستواصل التراجع وفق معظم المؤشرات
في هذا السياق، يمكن القول إننا إزاء دولة تفتقد التماسك الداخلي رغم عقود طويلة من مساعي "هوليوود" لبناء ذلك التماسك، عبر صناعة الوطنية الأمريكية، ما يعني أنها دولة برسم الانفجار، لكن ذلك يحتاج لظروف موضوعية لا يمكن أن يتم من دونها.
في سياق الجدل حول هذه النقطة؛ حضر مثال الاتحاد السوفياتي، وهو مثال لا يمكن تطبيقه هنا، والسبب أن مواطني الأخير كانوا كارهين لنظامهم (بخاصة العرقيات الأخرى من غير الروس)، وكان حلم الهجرة إلى أمريكا يراود كل واحد منهم، الأمر الذي يصعب نقله إلى حالة أمريكا التي لا يفكر أحد من أبنائها في الهجرة، فضلا عن تكون تلك الهجرة إلى الصين (المنافس الطبيعي الجديد، أو بديل الاتحاد السوفياتي في حالة القطبين).
أمريكا حتى الآن لا تزال دولة قوية، ولديها قدر من الحرية والرفاهية التي لا تتوفر عند منافسيها، وهذا ما يجعل سؤال انفجارها وتشظيها مختلفا عن حالة الاتحاد السوفياتي.
هنا يحضر من جديد مثال الاتحاد السوفياتي، ولكن في سياق معاكس، إذ إن استنزافه في الحرب الباردة هو ما جعله قابلا للتفكك، ونعني هنا العامل الخارجي، وإذا ما دخلت أمريكا (وقد دخلت فعلا) في حرب باردة مع الصين، وتصاعد نزيفها، وبدأت دولة الرفاه تتراجع، فإن أسئلة التشظي ستُطرح بقوة في ظل توفر العامل الداخلي، ممثلا في حجم التناقضات الكبير، إن كان على صعيد الاتحاد برمته، كما عكست ذلك الاحتجاجات الأخيرة، أم على صعيد الولايات التي ستميل بعضها إلى الانفصال، كما هو حال كاليفورنيا وتكساس التي تصرف على كثير من الولايات الأخرى من ثرواتها.
مع كل ذلك يمكن القول إن أمريكا قد دخلت منحنى التراجع منذ عقد ونصف، وهي ستواصل التراجع وفق معظم المؤشرات.
سيقول البعض إن الصين ليست أفضل للبشرية، فضلا عن روسيا، وهذا صحيح، لكن التعددية القطبية والصراع الدولي سيفرض توازنات جديدة تفيد المستضعفين؛ حين سيضطر كل محور لطلب ودّهم، وتلك هي سنّة التدافع الربانية التي جعلها الله جدارا يحول دون فساد الأرض، كما جاء في كتابه الكريم:
"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ". (البقرة،251).