هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ظهرت بوادر تغير في خطاب مصطفى الكاظمي، بعد مرور 12 يوما فقط على تعيينه رئيسا لوزراء العراق، سواء كان خطابه موجها إلى الإدارة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي أو الشعب العراقي. فبعد أن كان يؤكد في خطبه الأولى، على أن حكومته «تنوي التحضير لإجراء انتخابات مبكرة ونزيهة، والتعهد بمحاربة فيروس كورونا المستجد في البلاد»، تَصدر خطبه، في لقاءاته مع السفير الأمريكي وسفراء دول الاتحاد الأوروبي، أمله في أن «تواصل الدول دعمها للعراق في حربه ضد داعش». وهو تغير كبير يعيد إلى الأذهان سيرورة من سبقه من رؤساء الوزراء، مهما كان ادعاؤه مغايرا ومهما كانت مسميات «المنظمات الإرهابية» مختلفا. فمنظمة الدولة الإسلامية «داعش»، لم تكن تحتل المكانة الأولى في خطب التهنئة التي انهالت عليه سواء من قبل مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي أو محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني.
كان هَّم الجميع التوصل إلى توازن أمريكي ـ
إيراني، يتفاوض من خلاله الطرفان على صيغة توافقية لحل اختلافاتهما، وتقاسم
السيطرة على العراق، بشكل يرضيهما، بدون أن يعرضا أمن بلديهما للتهديد. وقد منحهما
الاتفاق الأولي على اختيار الكاظمي الإحساس بأن في «مقدوره المساهمة في التخفيض من
التوترات بين الولايات المتحدة وإيران»، كما ذكرت وكالة الأنباء الإيرانية. كما
عبَّرَ مايك بومبيو، عن حسن نية الإدارة الأمريكية تجاه إيران أكثر منه «الشعب
العراقي» باستثناء إيران من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها لمدة 120 يوما
لتصدير الكهرباء إلى العراق.
ما هي دلالات تغير خطاب الكاظمي ادن؟ لماذا
«داعش» الآن وما هي الجهة المستفيدة من ظهوره في هذا التوقيت بالتحديد؟ هناك جهات
عدة تحتاج إعادة نفخ الروح بداعش أو استحداث غيرها إذا استدعت الضرورة. بالنسبة إلى
البقاء الأمريكي بالعراق، هل من قبيل الصدف قيام «داعش» بعمليات متفرقة في البلد،
والنظام مقبل على مناقشة وإعادة النظر في تفاصيل الاتفاقية الأمنية الموقعة بين
العراق وأمريكا، بداية الشهر المقبل؟
الأمر الذي دفع الناطق باسم القائد العام
للقوات المسلحة أي الكاظمي إلى التصريح الفوري بأن « العراق ما زال بحاجة لبقاء
قوات التحالف الدولي لتدريب القوات العراقية وتجهيزها لمواجهة التحديات». أما
بالنسبة إلى إيران، يوفر ظهور داعش أرضية شاسعة لاستمرارية بقاء وسيطرة المليشيات
الموالية لها، على الرغم من تزايد الغضب الشعبي على وجودها، بعد أن ثبت قيامها
باستهداف منتفضي تشرين الأول/ أكتوبر وحملات الاختطاف والاغتيال التي طالتهم.
ويشكل الظهور الداعشي طوق نجاة للحشد الشعبي، الذي انحدرت شعبيته التي كان قد
نالها، عند تأسيسه بناء على فتوى المرجعية الجهادية.
إذ يعاني «الحشد الشعبي» من كساد في الشعبية
حتى بين اتباعه المخلصين وغيرهم من أبناء الشعب بسبب فساد القادة، وطائفيتهم
المزمنة، وإخلالهم بالوعود الدنيوية التي بُذلت بسخاء للشباب المنخرطين بصفوفه،
بالإضافة إلى توثيق عديد الجرائم التي ارتكبها أفراده في «المناطق المحررة»، والتي
ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية، حسب تقارير منظمات حقوقية دولية. لذلك، قام
الكاظمي، بنفسه، بزيارة رئيس الحشد في مقره الرئيسي وارتدى زي الحشد بتظاهرة
إعلامية لم تحظ بها أي جهة أخرى وذلك لطمأنة إيران على عدم المس بأذرعها داخل
البلد.
خلال أيام قليلة، عادت «داعش» لتغطي على وباء
كورونا، وعلى فشل التعامل معه، وعلى الفساد المكشوف، وكل ما يراد التستر عليه
إعلاميا وسياسيا. عادت لتستعيد مكانتها لدى الساسة كأداة جاهزة للترويع وتسويغ
الإرهاب بحجة محاربة الإرهاب.
فعودة «داعش» ضرورة حتمية لكل المتنازعين على
العراق وهو الخيار الأفضل لاستمرار منظومة الفساد السياسي والمليشيات. فما إن
يُذكر اسم «داعش» حتى تُبرر سرقاتها ونهبها مليارات النفط بالإضافة إلى استحواذها
على أموال المساعدات الخارجية المقدمة لمحاربة «داعش» بحجة الدفاع عن «الشعب
العراقي». بينما الحقيقة هي أن الكل، باستثناء «الشعب العراقي»، بأمس الحاجة إلى
داعش أو أية منظمة إرهابية أخرى. داعش ذات الوجوه والأشكال المتعددة هي عدو جاهز
مُهيأ للاستخدام عند الحاجة، ولو لم توجد فعلا لتم اختراعها. فكل الأنظمة، تقريبا،
بحاجة إلى «عدو«، يستقطب دعم الشعوب لحكامها مهما كانوا. «داعش» الوقت الحالي هو
«شيوعية» فترة الحرب الباردة و«مكارثية» الإدارة الأمريكية ضد مثقفيها في خمسينيات
القرن الماضي. وها هو سيف داعش يُشهر من جديد، بعد غيبة، لتعلن حكومة الكاظمي، كما
الحكومات التي سبقتها، شن عمليات ضد داعش، باسم «اسود الجزيرة» في ذات المحافظات
التي لم يزل مئات الآلاف من سكانها قد هُجروا قسرا ولايزالون يعيشون في الخيام،
ولم يكن الناطق الرسمي باسم قائد القوات المسلحة الكاظمي قد أكمل تصريحه بوجوب
إبقاء القوات الأمريكية حتى شن طيران «التحالف» غارة على جنوب غربي محافظة نينوى.
المحافظة التي لاتزال رائحة جثث ضحايا القصف الأمريكي تتخلل هواء خرائبها.
لم تعد الساحة السياسية، ادن، بعد أسبوع واحد
من إعلان الحكومة الجديدة، تقتصر على «النزاع» الأمريكي ـ الإيراني بل أتت أضافة
«داعش» وبالحجم الذي يستدعي القيام بعمليات عسكرية أرضا والقصف جوا، كعامل مستجد
قد يعمل، على تقوية حضور «المُتنازعين» الأمريكي والإيراني وليس استعادة السيادة
العراقية، حسب وعود الكاظمي في خطبه الأولى، فبقائهما وفق تقسيم الجو لأمريكا
والأرض لإيران، مُفيد للطرفين خاصة وان استراتيجية أمريكا العسكرية لم تعد تعتمد
على إبقاء المعسكرات والقوات على الأرض بل على الطائرات بلا طيار والعمليات الخاصة
وكل أنواع التقدم التكنولوجي عن مبعدة بالإضافة إلى القوة الناعمة، بجوانبها
الثقافية والتعليمية.
فالاتفاقية الاستراتيجية المنوي مراجعتها لا تقتصر على الجانب العسكري والأمني فقط كما يُشاع تضليلا.
ولعل التغير الأكبر الذي سيطرأ، جراء إحياء
تنظيم داعش، هو مدى نجاح منظومة الفساد السياسية في استخدام الترهيب من داعش
للقضاء على انتفاضة تشرين / أكتوبر نهائيا، بعد أن فشلت كل الأساليب القمعية
بالإضافة إلى فيروس كورونا في ذلك. إذ تشير دلالات تغير خطاب الكاظمي، خلال بضعة
أيام من تعيينه، إلى أن من وافقوا على تعيينه من أحزاب ومليشيات ومحتلين
سيستعينون، من جديد، بشعار «محاربة الإرهاب» لقمع كل صوت مستقل يطالب باسترجاع
الوطن من أيديهم، وسيبقى مدى نجاحهم مرتبطا بعودة المنتفضين إلى الساحات، بذات
القوة والوعي الذي فشل الفاسدون باختراقه.
(القدس العربي)