مقالات مختارة

كيف يعرف القرآن الكريم ظاهرة الطغيان؟

أحمد القديدي
1300x600
1300x600

لعل من بعض فضائل الحجر الصحي أيام الفيروس أن يخلد الإنسان إلى نفسه، متأملا ومتسائلا في حيرته الوجودية، فيجد في الذات سكينة نادرة، وفي هدى الله نزوعا لقراءة القرآن بعيون الباحث عن الحقيقة عبر آيات الكتاب المجيد، فكتبت هذه الخواطر لعلها تكون لبعض القراء قبسا من نور، تحثهم على مواصلة التفكير في هذا الباب السياسي والحضاري بأفضل مما فعلت أنا، لأن لدينا من الشباب الأكاديمي ما به نفخر ونعتز.


يتداول الناس هذه الأيام عبارة الطغيان والطغاة كل حسب هواه، وأردت في هذه المقالة أن أعود إلى النبع القرآني الصافي، لأرفع بعض ما التبس على العقول حتى تبدو المعاني القرآنية جلية ناصعة؛ ففي تاريخ الفكر الإسلامي، اعتاد المؤرخون والباحثون العودة إلى نص القرآن، إما لتأكيد المرجع وإما لإثبات حقيقة وإما لإضفاء شرعية هذا الرأي أو ذاك في قضية ما. ولكن النص القرآني ذاته كاد مع هذه المناهج أن يبعد عنا، أو أن يصبح بمنزلة إجازة علمية لهذا المفكر أو لذلك المجتهد. ويخرج العلامة عبد الرحمن بن خلدون عن هذا التقليد بكونه استثناء فريدا، حيث أعطى العلّامة للنص القرآني استقلاليته العبقرية عن الاختلاف البشري، وارتفاعه الإلهي عن الأخطاء البشرية، وقد اغتنمت بعض الوقت المتاح لقراءة معنى من معاني القرآن، بمعزل عن تاريخية الأحداث وإنسانية التفاسير، وهو معنى الطغيان وكل ما اشتقه الكتاب المقدس من فروع الجذع الأصلي وهو فعل: طغى يطغى وما انحدر عنه من أسماء: طغيان وطاغية وطاغوت، بغاية الوقوف على ما يشبه المادة الخام للذكر الحكيم حول معنى أساسي من معاني نشأة الدول وانحدارها، وهو المعنى الأهم في بداية قرننا الحادي والعشرين، لأن العلة الحضارية المتفق على خطرها على المجتمعات هي الطغيان، هذا الطغيان الذي وفاه القرآن حقه من الشرح والتعريف والعلاج والتوصيف، حتى لا نخطئ التعامل والتحليل وحتى لا نضل سبيلا، ففي سورة طه يأمر الله تعالى رسوله موسى عليه السلام بأن يذهب إلى فرعون، معللا سبحانه هذه الرحلة بطغيان حاكم مصر، فالطغيان هو إذن في منظور الخالق البارئ درجة من درجات السلوك البشري، يمكن أن يبلغها الماسك بزمام السلطة، بعد أن يمتحنه الله ويختاره شعبه، فيصل إليها ويستحق حينئذ التذكير أو ما هو أخطر من التذكير، حسب سلم تقييم الطغيان. ونبقى مع فرعون لنجد تأكيد الأمر الإلهي بصيغة المثنى، لموسى وأخيه هارون عليهما السلام: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى 43 فقولا له قولًا لينًا لعله يتذكر أو يخشى 44" ورد المبعوثان الكريمان بالمنطق البشري (أي الخشية من بطش الطاغية): "قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى" طه 45، ولكن الله سبحانه أجابهما بالمنطق الإلهي ليهدئ من روعهما: "قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى" طه 46، ومن هذا الحوار بين الله سبحانه ومبعوثيه إلى فرعون بسبب طغيانه، نتعلم بأن التعاطي مع الطاغية في هذه الحالة هو التعاطي التدريجي الذي لا يقنط من عبد من عباده، فيأمر الرسولين بأن يقولا له قولا لينا "لعله يتذكر أو يخشى"، كأنما أراد الله عز وعلا أن يرينا آية من آيات الرجوع عن الطغيان إما بالتذكر أو الخشية. أعتقد باجتهادي المتواضع، أن التذكر لغويا هو تشغيل الذاكرة بمعنى الاعتبار بالتاريخ واستخلاص دروسه البينة الساطعة، فالتدبر في الأحداث الماضية وقراءتها بشكل متعمق يصد الحكام عن الطغيان؛ لأنه يعلمهم الامتثال لنواميس الكون. أما الخشية فهي الدرجة العليا من الإيمان، وإذا ما صح إيمان امرئ فإنه ينجو من داء الطغيان؛ لأنه يشعر بنسبية الأشياء وبضعف الإنسان إزاء الله والتزامه بعبادته والاحتكام إلى تعاليمه، وقد ورد مصطلح الطاغين والطغيان في آيات القرآن مرات عديدة منها: "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا" النساء5، يطلق القرآن نعت الطغيان على البصر حين يزيغ، فيقول عز من قائل في وصف بعض مواقف الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ما زاغ البصر وما طغى" النجم17، فيربط سبحانه بين الزيغ والطغيان في إشارة إلهية إلى أن الأمرين ينتميان إلى خلل واحد، هو الزلل عن الطريق القويمة، كأنما الذي يزيغ والذي يطغى هما في الضلال البعيد نفسه. وفي الآية نفسها أيضا معنى من معاني الإعجاز القرآني، حين ينفي الله سبحانه صفة الطغيان عن البصر في هذه الحالة، وهو إقرار بأن البصر- وبالتبعية له البصيرة – يمكن أن يصابا بالطغيان في لحظة من لحظات الزيغ. ولعل الله تبارك وتعالى يريد منا أن نستشف هذا المعنى حين يقول في سورة العلق الآية6 "كلا إن الإنسان ليطغى"، وفي بعض الآيات ذكر القرآن القوم الطاغين، لأن الطغيان ليس في المنظور الرباني مقتصرا على شخص صاحب الأمر وأوليائه من الحكام، فالقوم يمكن أن يكونوا طاغين، والطغيان يصبح سلوكا عاما لا شخصيا مثلما هو الحال لدى فرعون فيما أسلفنا. ففي سورة الذاريات يضفي الله تعالى على قوم نوح هذه الصفة "طاغون" بعد أن ينعتهم بأنهم كذلك قوم فاسقون، ويأمر الله رسوله قائلا: "فتول عنهم فما أنت بملوم 54 وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين 55". وفي موقع آخر من الكتاب يربط الله بين الوهم والطغيان، حيث يقول سبحانه في سورة الطور واصفا الذين لم يؤمنوا بما أرسل إليهم والذين تربصوا بالأنبياء: "أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون 32". كأنما الذين يأتمرون بالأحلام – أي بالأوهام – هم أولئك الذين يغريهم الضلال بالطغيان. وفي سورة الصافات يضع الله القوم الطاغين في صف الذين لا يعترفون بسلطان الله ورسله واليوم الآخر: "قالوا بل لم تكونوا مؤمنين 29 وما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين30". توعد الله تبارك وتعالى الطغاة بسوء العذاب في آيات عديدة مبثوثة في الكتاب منها؛ "إن جهنم كانت مرصادا 21 للطاغين مآبا 22" النبأ، و"هذا وإن للطاغين لشر مآب" ص55.

 

(الشرق القطرية)

1
التعليقات (1)
محمد قذيفه
السبت، 16-05-2020 02:20 م
جزاك الله خيرا على هذه التوضيحات والشروح