هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ينبغي أن نقرّ، بكل إنصاف وموضوعية، بأنّ التعديل الدستوري الجديد قد حمل نقاطا عديدة إيجابية، ومنها الحفاظ على الثوابت الوطنية كدينِ الدولة ولغتها الرسمية، وحظر خطاب الكراهية والتمييز، وإدراجِ الأمازيغية ضمن المواد الصمّاء غير القابلة للتعديل للحفاظ على وحدة الوطن والشعب، وحصرِ مفهوم الحصانة البرلمانية فقط في حماية النواب أثناء أداء مهامهم من أيّ تعسّف، ما يمنع الفاسدين من الاحتماء بالحصانة للإفلات من العقاب، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الحكومة، وإلغاء التشريع بأوامر خلال العطل البرلمانية، وإلزام الحكومة بإرفاق مشاريع القوانين بمشاريع النصوص التطبيقية لها بدل أن يستغرق الأمر أشهرا أو سنوات، وتعزيز الرقابة البرلمانية على أعمالها، وإمكانية استجوابها…
إلا أنّ هذا التعديل حمل نقاط ظلّ عديدة، ومنها:
– أقرّ المشروع بالتصريح لممارسة حق الاجتماع والتظاهر، أي ضرورة ترخيص السلطات لأيّ مظاهرة كما هو جارٍ منذ 1989، وقد كان الأحرى تعديل هذا البند والاكتفاء باشتراط تقدّم الجهات الراغبة في التظاهر بإشعارٍ إلى السلطات، من باب تأكيد نيّتها في التغيير الفعلي وعدم التضييق على الحريات كما حدث في العهد السابق، علما أنّ مظاهرات الحَراك الشعبي كانت تخرج كل جمعة في 48 ولاية بلا ترخيص، واستمرّت أزيد من عام ولم يحدث خلالها ما عكّر الصفو العامّ. وإذا كانت مسودّة التعديل الدستوري تنصّ على إلزام السلطات باحترام الحقوق الأساسية والحريات العامّة، فالأحرى أن تلغي شرط الترخيص للمظاهرات وتستبدله بشرط الإشعار فقط.
– ثمانية أعضاء من تشكيلة المحكمة الدستورية، تعيّنهم السُّلطة، ولا ينتخب القضاة، في المحكمة العليا ومجلس الدولة، سوى أربعة فقط؛ أي أنّ عدد الأعضاء المعيّنين هم ضِعفُ عدد الأعضاء المنتخَبين، في حين أن الوضعية الطبيعية هي أن يفوق عددُ القضاة المنتخَبين عددَ المعيّنين، لا العكس.
– هناك عدّة مواد هي أقرب إلى المثالية منها إلى الواقع، ومنها: إلزام الدولة بضمان جودة العلاج واستمرارية الخدمات الصحية، ومشاركة الشباب في الحياة السياسية، ودسترة حرية الصحافة بكلّ أشكالها، وإقرار التصويت داخل البرلمان بحضور أغلبية الأعضاء، ودسترة السلطة العليا للشفافية والوقاية من الفساد ومكافحته وإدراجها ضمن الهيئات الرقابية، وتكريس مبدأ حياد الإدارة وعدم تماطلها في علاقتها مع الجمهور… ومواد أخرى مثالية نصّت عليها حتى الدساتير السابقة، ولكن لا أثر لها في الواقع؛ منذ الاستقلال ونحن نسمع بتسليم المشعل للشباب، فهل تحقق ذلك؟
كيف يمكن للسلطات فرضُ جودة العلاج بالمستشفيات الجزائرية الشهيرة بتسيُّبها وتنفيرها للمرضى ودفعهم إلى طلب العلاج في الخارج؟ هل يمكن للسلطة إلزامُ أعضاء البرلمان بحضور الجلسات والتصديق على القوانين والحال أن غرفتيه دائما خاويتان على عروشهما؟ هل يمكن محاربة سرطان بيروقراطية الإدارة بنصوص مثالية؟ هل يمكن محاربة سرطان الفساد المستشري منذ قرابة ستة عقود بدسْترة مراصد المراقبة، أم بإرادة سياسية حقيقية تضع حدا لنهب المال العام؟
المشكلة لم تكن أبدا مشكلة دساتير ونصوص، بل في تطبيقها على أرض الواقع والالتزام بها، لاسيما ما تعلّق منها بالديمقراطية الحقيقية والحريات والتداول على الحكم… فهي موجودة على الورق فقط.
وللحديث بقيّة…
(الشروق الجزائرية)