هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
إن المتابع للسياسات الأمريكية والإسرائيلية سيكتشف أن قيام بعض العرب بالتماهي مع المروية الصهيونية للتاريخ والنزاع إرضاء للولايات المتحدة وتماهيا مع السياسة الإسرائيلية لن يغير من الطبيعة الاستيطانية والإجلائية والعدائية للصهيونية. بل إن هذا التماهي سيزيد من العنجهية التي تعبر عنها الأساليب الإسرائيلية، وهذا سيطيل من أمد الصراع ويضيف إليه تعقيدات جديدة.
إن تقرب بعض العرب من الصهيونية ومن الإدارة الأمريكية الراهنة عبر صفقة القرن ومن خلال مؤتمر البحرين في حزيران/يونيو 2019 ومن خلال الذباب إلكتروني ومن خلال الثقافة والدراما يثير مزيدا من الحزن على الحالة العربية. الحالة العربية حتى الآن لا تعرف كيف تفرض على أعدائها تغيير سياساتهم القائمة على الاحتلال والتمييز وأخذ أراضي وممتلكات الغير بالقوة.
إن رهان التطبيع السياسي والاقتصادي والثقافي
لن يجعلنا كعرب أكثر انسجاما مع عدونا. لو كان هذا ممكنا لأصبحت تركيا لصيقة الغرب
لأبد الآبدين، لكنها اكتشفت مبكرا، من خلال طلب الانضمام للوحدة الأوروبية، ما
سيكتشفه بقية العرب مع الوقت، أن العالم الغربي المسيطر والصهيونية بصفتها امتدادا
مشوها له، ممعن بالتمييز تجاه العوالم النامية وأمم الملونين وعلى الأخص العالم
الإسلامي.
ويجب الانتباه إلى أن مكانة القدس وفلسطين
ليست مرتبطة فقط بالشعب العربي الفلسطيني، بل مرتبطة بمكانتها منذ القرن السابع
الميلادي وذلك عندما أصبحت القدس وفلسطين جزءا من العالم العربي الإسلامي، ومكانة
القدس مرتبطة بالإسراء والمعراج في العقيدة الإسلامية، ومرتبطة أيضا بكونها أولى
القبلتين وثاني الحرمين، وبكونها تحمل قيمة وطنية ودينية للمسيحيين والمسلمين
العرب. بل إن القدس هي المكان الذي حرره صلاح الدين من الصليبيين. القدس كما
وفلسطين هو المكان الذي سقط من أجله ألوف الشهداء من العرب والفلسطينيين.
لهذا بالتحديد سنجد أن موقف الملك فيصل رحمه
الله كان منسجما مع العمق العربي المستقل، فقد أعلن موقفه تجاه القدس والصلاة فيها
منذ حرب 1973. ذلك الموقف في سبعينيات القرن العشرين شكل حماية لمكانة المملكة
العربية السعودية وقدرتها على التفاعل مع التيارات والاستقطابات العالمية
والإقليمية.
لكن الواضح أن هذا الموقف أصابه الكثير من الارتباك في الآونة الأخيرة وتورط بسياسات آنية متناقضة. لكن أقلية من الدول العربية كما هو الحال في الكويت واضحة في فهم الصهيونية وإسرائيل. لهذا استطاعت الكويت وبلسان أميرها ثم قادة مجالسها وتياراتها تحديد موقف واضح من التطبيع والصهيونية. إن وجود حالة نقاش سياسي بين قوى سياسية ومدنية مختلفة في الكويت دفع بالوضع نحو التوازن والتعبير الحر.
في هذه المرحلة الكاشفة لا يكتفي الداعي
للتطبيع بالقول بأن التطبيع والسلام أفضل من الحرب. لقد برر الأردن موقفه عندما
وقع اتفاق السلام عام 1993 بضرورات المصلحة الوطنية والقومية، وهكذا برر ياسر
عرفات رئيس منظمة التحرير موقفه عندما وقع على اتفاق أوسلو عام 1993، لكن الداعي
للتطبيع اليوم يسعى لتشويه تاريخ النضال الفلسطيني وتاريخ الانتفاضات الفلسطينية
من أجل خلق حالة يأس وفقدان كامل للثقة بالنفس. إن الأخطر في الدعوات الراهنة
للتطبيع هو تبني المقولات الإسرائيلية وفي حالات الاعتماد الأعمى على المصادر
الإسرائيلية في وصف الحروب والمقاومة الفلسطينية والنكبة والقضية الفلسطينية. لهذا
تتكرر مقولة «باعوا أراضيهم»، «وأضاعوا الفرص» (مقولة أبا إيبان وزير خارجية
إسرائيل 1966-1967 ).
هناك في هذه المرحلة، محاولة تبدو ليست عفوية
لفض عرى العلاقة بين الهوية العربية الإسلامية والقضية الفلسطينية. هذه التصفية
ليست متبادلة، فلا الصهيونية ولا اليمين الديني الأمريكي المتطرف قام بتصفية
التوجهات التي تربط السياسي بالثقافي بالديني بالاستيطاني وبمشاريع الطرد
والعنصرية. بل إن الهجوم على شخصية صلاح الدين ودوره من قبل عدد من المثقفين العرب
يصب بنفس السياق الهادف لاغتيال الشخصية العربية الإسلامية. قلما نجد أن حضارة
قامت بنزع كل أسلحتها المعنوية والثقافية.
ولو عدنا قليلا للتاريخ الحديث، سنجد أن مصر
أقامت سلاما مع إسرائيل، ولم تخض أي حرب معها منذ العام 1973. أين هي مصر اليوم في
مؤشرات التنمية، والاقتصاد، والأمن الغذائي، والوظيفي، والاستقلال الوطني؟ وبنفس
الوقت نتساءل ماذا فعل السلام للأردن؟. فهناك سفارة وسفير وتبادل علاقات، فهل قدمت
إسرائيل للأردن أي خدمة حقيقية لقاء مرونتها؟ أم إن إسرائيل تهدد كل يوم أمن
الأردن وتعد بخلق حالة عدم استقرار عند أول منعطف؟ إن المرونة مع إسرائيل في ظل
الارتداد عن المروية الأخلاقية ومروية الحقوق والعدالة تمهد لفقدان أحد أهم عناصر
القوة والاستقلال لدى العرب. لهذا فالسلام الراهن مع إسرائيل ليس سلاما حقيقيا،
انه وضع هش قابل للانهيار في منعطفات قادمة.
المرونة العربية لم تكن استثناء. مثلا الرئيس
السوري حسني الزعيم قدم بعد 1948 عروضا سخية لإسرائيل كاستعداده لتوطين اللاجئين
الفلسطينيين في سوريا. لكن إسرائيل رفضت. كما عرف عن عبد الناصر مرونته من خلال
رسائله للولايات المتحدة. لقد استعد ناصر للسلام بشروط تحمي الكرامة والحقوق
العربية، لكن ذلك أدى بالنهاية لضربة حرب 1967. كما أن مرونة منظمة التحرير في
أوسلو 1993 أدت للمزيد من الاستيطان الإسرائيلي في ظل المصادرة والاحتلال والحصار.
لقد رفضت إسرائيل كل الحلول ومن أهمها المبادرة العربية للسلام التي نتجت عن مؤتمر
القمة العربي في بيروت في العام 2002. إسرائيل تخشى أي سلام يوقف تقدم المشروع
الصهيوني في البلاد العربية. لهذا فحديث البعض عن تصلب العرب ومرونة إسرائيل هو
طرح لا أساس له.
إن محاولات إنهاء النزاع العربي الصهيوني بلا
تحقيق قيم العدالة ونهاية للظلم غير ممكنة. كل الظروف الموضوعية تؤكد بأن النزاع
العربي الإسرائيلي لازال في بداية البداية. في هذا الصراع يسرق العدو الأرض، ويحرق
المحاصيل، ويدمر الحياة ويحاصر المدن، كما ويسجن الشبان والأطفال والشيوخ والنساء.
لكن النزاعات مراحل، فما تقوم به الصهيونية بحق الفلسطينيين والعرب قد يقوم به
العرب تجاه إسرائيل في زمن آخر. من يمارس العنف يجب أن يتوقع عنفا مضادا، ومن يأخذ
الأرض والحقوق يجب أن يتوقع أنه سيتعرض لمصادرة مضادة. من عاش شاهرا السيف منذ
بدايات القرن العشرين سيستنزفه السيف لأبد الآبدين.
(القدس العربي)