مقالات مختارة

فلوجة المقاومة… لماذا يخشون ذكراها؟

هيفاء زنكنة
1300x600
1300x600

في الرابع من نيسان/ أبريل 2004، مرت ذكرى الهجوم الوحشي الذي شنه المحتل الأمريكي على مدينة الفلوجة، الواقعة على نهر الفرات، أقل من 60 كيلومترا غرب بغداد، على موقع «هاشمية الأنبار»، عاصمة العباسيين الأولى في القرن الثامن، قبل بناء بغداد.

 

أُطلق على الهجوم اسم «معركة الفلوجة الأولى ». شارك فيها خمسة آلاف جندي من المارينز والمرتزقة. استخدمت فيها قوات الاحتلال أسلحة محرّمة دوليا ضد أبناء المدينة، والتي انتهت بفشل الهجوم وانسحاب قوات الاحتلال. كان انسحابا مؤقتا. لتشهد الفلوجة هجوما آخر، في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام نفسه، وصفه أحد قادة جيش الاحتلال الأمريكي بانه «الأكبر منذ حرب فيتنام». تم الهجوم بموافقة رئيس الوزراء أياد علاوي، الذي كان الحاكم العسكري الأمريكي بول بريمر قد عينه يوم قرر مغادرة العراق.


تم خلال الهجومين، تهديم 70 بالمئة من مدينة الفلوجة، وقتل آلاف المدنيين، إلى حد عجز فيه الأحياء عن دفن القتلى، فبقيت الجثث في الشوارع عدة أيام، وتم تحويل ملعب لكرة القدم، فيما بعد، إلى مقبرة، ودفن البعض، في لحظات الأسى المطلق، أحباءهم في حديقة الدار. احدى هذه اللحظات سجلتها الكاتبة نسرين ملك في قصيدة « الأب الذي دفن ابنه في حديقة الدار»، مخاطبة فيها الأب بوجع ينغرز عميقا في القلب: ارفع جسد ابنك الدافئ واصرخ كما لم تصرخ من قبل واسألهم ما الذي فعله ابنك؟… اجلس يوميا بجانب القبر، ابكِ لخسارتك وخسارتنا وأسالهم ما الذي فعله ابنك؟».


وإذا كانت قيادة الاحتلال، يومها، قد أصدرت أوامرها إلى الجنود، ملخصة سياستها بجملة واحدة هي « اقتلوا كل ما يتحرك»، حسب شهادة عديدين منهم فيما بعد، وكان من جرائها قتل آلاف المدنيين، فإن جريمتها الأكبر، هي حين استخدمت اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض اللذين تم تشبيه آثارهما بما يعاني منه سكان مدينة هيروشيما اليابانية، حتى اليوم، منذ أن القى الجيش الأمريكي القنبلة الذرية عليهم. وأثبتت دراسات علمية عديدة تأثير اليورانيوم المنضب والفسفور الأبيض الموثق بارتفاع ملحوظ في مستويات التشوهات الخلقية عند الولادة، جنبا إلى جنب مع ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطان وظهور أمراض وتغيرات غير عادية في نسبة الجنس عند الولادة.


لماذا لا يراد من العراقيين والعالم تذكر الفلوجة؟ حاليا، تتعاون عدة جهات، تبدو مختلفة أو متنازعة ظاهريا، وهي الاحتلال الأمريكي والمتعاونون معه وساسة الولاء الإيراني وميليشياتهم، على طمس ذكرى مقاومة الفلوجة وما لحق بها من تدمير بشري وتخريب عمراني، بعيد المدى. بالنسبة إلى المحتل الأمريكي، ليس من مصلحته الإشارة إلى ما حدث بالفلوجة، إذ لا تزال قواته موجودة في عدة قواعد عسكرية متناثرة في أرجاء الوطن من شماله إلى جنوبه «بناء على طلب الحكومة العراقية لمحاربة الإرهاب»، وكان ولا يزال من المستحيل على قوات الاحتلال الاعتراف بمقاومة المدينة ضدها لئلا تكون مثالا يحتذى، عراقيا وعربيا. فقد يحطم المثال السردية التي بناها الغزاة، على مدى عقود، حول حاجة العراقيين إليهم كمحررين، والوعود التي قُدمت إليهم من قبل عراقيين متعاونين معهم، بأنهم سيتم استقبالهم بالزهور والحلوى بالإضافة إلى استقتال قوات الاحتلال في إحراز نصر يمحو من ذاكرة الشعوب هزيمة القوات الأمريكية في حربها ضد فيتنام. هناك، أيضا، السقوط المهين لما يُسمى « ديمقراطية « العراق الجديد حسب الوصفة الأمريكية.


أما ساسة النظام، فانهم يتعامون عن الذكرى، بقوة، لأنهم كانوا ولايزالون يستنشقون هواء وجودهم عبر المحتل الأمريكي وهم مستعدون لاتهام الشعب كله بالإرهاب إرضاء لسادتهم، كما انهم يرغبون بمحو ذكرى المقاومة التي تستحضر عار تعاونهم واستخذائهم، إذ قلما يوجد من يرغب ببقاء من يذكره بحقيقته. لذلك يفضلون الهاء الشعب بإقامة مناسبات واحتفالات وطقوس تتماشى مع مصالحهم وسياستهم وتعمل، في الوقت نفسه، على تخدير الناس. مع المتعاونين مع المحتل الأمريكي، يقف الساسة من أتباع إيران. متفقين في اتهامهم المقاومة بالإرهاب لتبرير وحشية الميليشيات، متمثلة بالحشد الشعبي، وممارساتها اللا إنسانية ضد كل من يمثل المقاومة وعلى رأسهم أهل الفلوجة، الأمر الذي دفع الكثيرين منهم، في شهادات موثقة لمنظمات حقوقية دولية، إلى القول بأن « الحشد الشعبي هو الوجه الآخر لداعش، انهما وجهان لعملة واحدة».


بالمقابل، في ذاكرة العالم، لدى المؤمنين بحق الشعوب في المقاومة، في الحياة والحرية والكرامة، أصبحت الفلوجة رديف الغورنيكا، كمكان ولوحة. المكان هو عاصمة الباسك التي قاومت الديكتاتور الإسباني فرانكو، وحين فشل بإخضاعها طلب من ألمانيا النازية قصفها، فقُصفت يوم 26 نيسان/ أبريل، عام 1937. اللوحة هي «غورنيكا» للفنان الإسباني بيكاسو الذي كتب عنها مذكرا الألمان بجريمتهم: « عندما كان الجنود الألمان يأتون إلى الأستوديو الخاص بي، بباريس، وينظرون إلى لوحاتي الأولية عن الغورنيكا، كانوا يسألون «هل فعلت ذلك؟». كنت أجيب « كلا، أنتم من فعل ذلك».


موضحا فيما بعد سبب رسمه الغورنيكا « ليس الرسم ديكورا لتزيين الشقق. انه سلاح هجوم ودفاع ضد العدو«. لذلك، ساهم فنانون عالميون وكتاب ومسرحيون ومفكرون، من فنلندا إلى أمريكا اللاتينية إلى البلدان الاستعمارية تاريخيا كبريطانيا وفرنسا وإيطاليا إلى مركز الإمبريالية أمريكا، في تسخير أدواتهم الإبداعية والفكرية لفضح ما أطلقوا عليه « جريمة أمريكا» و«أمريكا تتصرف كالنازيين»، دفاعا عن “الفلوجة غورنيكا الجديدة» و«الفلوجة غورنيكا القرن الواحد والعشرين». آلاف القصائد كتبت (هناك موقع إلكتروني متخصص بذلك) واللوحات رُسمت تستنكر وتصرخ وتحتج. متظاهرون في بلدان الاحتلال يعتصمون وينامون في الشوارع احتجاجا.


في العراق، بعيدا عن المحتل والساسة الفاسدين والمليشيات الإجرامية، تمر ذكرى غورنيكا القرن الواحد والعشرين، في العراق، بين المثقفين والإعلاميين، باستثناء قلة، بصمت مخيف. وهم جلوس يرثون أنفسهم، يكتبون حكايات ماضيهم البطولي، أو يتصفحون سيرة «الأئمة الصالحين»، لئلا يروا ما يمر أمامهم. لئلا يروا مسيرة أجنة محكوم عليها بالإعدام قبل ولادتها، وأطفال محكوم عليهم بالتشوه مدى الحياة، وأمهات شابات حُكم عليهن بارتداء السواد مدى الحياة. إن صمت المثقف إزاء فاجعة أو حدث يمس الشعب، مهما كان، يعكس وجوده هو وكينونته ودوره ومدى استحقاقه لحمل سمة المثقف. وانتقائية الموقف الإنساني والنضالي سيؤدي، حتما، إلى كسر بوصلته الأخلاقية. فلا غرابة أن يكون صمت المثقف، إزاء جرائم الاحتلال، مخيفا أكثر من نازية المحتل.

(القدس العربي)

0
التعليقات (0)