هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في سياق المفاجأة التي تجتاح العالم، ممثلة في فيروس "كورونا" الذي صنفته منظمة الصحة العالمية أخيرا بوصفه "وباء" عالميا، تحضر إيران بقوة، وإن سبقتها بحسب الأرقام المتداولة رسميا، كل من الصين وإيطاليا.
الذي لا شك فيه أن أحدا في العالم، باستثناء مؤيدي إيران، لا يأخذ الأرقام التي تعلنها على محمل الجد؛ لا هي ولا كل الدول الشمولية؛ على تفاوت بين دولة وأخرى، لأن مفهوم الشمولية متفاوت أيضا من حيث حدته (المُعلن عنه في إيران حتى كتابة هذه السطور 10755 حالة مؤكدة و429 حالة وفاة).
فحين يصيب "الفيروس" ذلك العدد الكبير من المسؤولين الكبار، وهم الأقدر على توفير الحماية لأنفسهم، والأقدر تبعا لذلك على توفير العلاج، فإن المشهد الشعبي سيكون أسوأ بكثير مما يتم تداوله رسميا، بحسب لغة المنطق، فيما سيكون الشعب أكثر عرضة للإصابة بالوباء، لا سيما تلك الفئة التي لا تتخذ الإجراءات اللازمة للوقاية؛ إن كان لعدم توفرها، أم بسبب نظريات دينية سطحية، كما في قصة المراقد والمواقع الدينية التي يروّج صغار عقول أنها بمنأىً عن الإصابة بالفيروس، كأن الدين يقول للناس إن بوسعهم أن يلقوا بأنفسهم إلى التهلكة، أو أن "الأئمة" الذين لم يحموا أنفسهم من البطش وهم أحياءً؛ سيحمون الناس من الإصابة وهم أموات.
لا نكتب هذه السطور كي نثبت إن حجم الوباء في إيران هو أكبر من الأرقام المعلنة، كما يفعل كثيرون لاعتبارات المناكفة والعداء، ففي سياق الأمراض والكوارث الطبيعية لا ينبغي لروح الشماتة أن تظهر، لا سيما أن الشعب ليس مسؤولا عما اقترفه قادته من جرائم بحق المنطقة؛ إن كان في العراق أم سوريا (الجريمة الأكبر)، أم في اليمن.
وما هتاف جحافل منهم ضد مغامرات الخارج سوى دليل على ذلك. وفي النهاية، فقد عانى شعب إيران الأمرّين من مغامرات قادته، ولو كان الأمر بيده لتغير المسار.
حين اختار الشعب الإيراني حسن روحاني لدورتين متتاليتين؛ ومن أول جولة، فقد كان يعلن بذلك أنه يبحث عن أمل وسط الخراب الذي يعانيه جراء مغامرات الخارج التي استنزفت ثرواته، وتركته نهبا للفقر وبؤس الأحوال بشكل عام. وحين يفجّر عدة انتفاضات عارمة خلال سنوات، يتم قمعها بسطوة الأمن وقوة "الباسيج"، فقد كان يقول رأيه بصراحة ضد تلك المغامرات التي أرهقته.
اليوم؛ يأتي "كورونا" ليقول بالفم الملآن إن الوضع الداخلي لم يعد يُحتمل، ومثل هذا البلد المدجج بالثروات لا يمكن أن يبقى شعبه بهذا المستوى من البؤس.
سيرد البعض: وماذا عن إيطاليا الغنية والديمقراطية؟ والرد أن إجراءات إيطاليا كانت قوية، وهي تفعل المستحيل في سياق المواجهة، كما أن أحدا لا يشكك في الأرقام التي تعلنها، وهي لا تدفن رأسها في الرمال، فضلا عن أن تتحدث عن مؤامرات خارجية وراء انتشار الفيروس.
سيسأل آخرون: أليست العقوبات الأمريكية في طبعتها السابقة والحالية هي التي أدت إلى هذا المستوى من التردي في الأوضاع الداخلية الإيرانية؟
كان بوسع إيران أن تنحاز للشعوب (وهي الأكثر عداء للمشروع الصهيوني). وما كان لنظام جديد في سوريا يعبّر عن ضمير الشعب أن يعاديها لو لم تقف من ثورته ذلك الموقف القاتل، كما كان بوسعها القبول بنظام عادل في العراق للشيعة فيه الدور الأكبر؛ بدل تبني النهج الطائفي المدمّر
نعم؛ العقوبات هي السبب، ولكنها ليست السبب الوحيد، ذلك أن ما صرفته إيران في سوريا واليمن، لم يكن سهلا بحال، وهو جزء لا يتجزأ من ثروات الشعب الإيراني، ولا تسأل عن كل مشروع التمدد المذهبي بكل تجلياته، وما ينطوي علي من أثمان باهظة؛ لا يمثل الدعم المقدم لفلسطين سوى النزر اليسير منه؛ حتى لا يقال إننا ننكره، مع أنه جزء من الدعاية للمشروع، وليس بعيدا عنه.
بعد ذلك تأتي العقوبات وما ترتب عليها من معاناة، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا أيضا هو: هل كانت العقوبات مفاجئة؟ أليس من الطبيعي أن تتوقعها القيادة؟ أليس فشلها في توقعها إذا كانت لم تتوقعها فعلا هو فشل ذريع ينبغي أن تُحاسب عليه؟
أليس من الكارثي أن تتم صناعة مشروع نووي تُصرف عليه عشرات المليارات من الدولارات، وأضعافها نتاج العقوبات، ثم يجري التخلي عنه لأجل رفع العقوبات، ثم يكون الفشل التالي بسبب مشروع الصواريخ الباليستية، مع أننا توقعنا ذلك كمحللين سياسيين، وليس كقادة لدولة إقليمية كبيرة؟!
إن ما جرى ويجري، أكان بجلب العقوبات، أم بمشروع التمدد المذهبي وما انطوى عليه من نزيف، وفي ظل فشل واضح له، إنما يعبّر عن فشل كارثي لقيادة المحافظين، وقيادة خامنئي على وجه الخصوص، إذ لا قيمة لحكاية الديمقراطية والانتخابات في بلد لا يخضع من يمسك بالمال والسياسة الخارجية فيه لمنطق صناديق الاقتراع، بل يتم الزعم بأنه يتلقى الأوامر من الله عز وجل؛ عبر الإمام المهدي!!
لقد استنزفت القيادة الإيرانية شعبها في هذا المسلسل من الفشل، في ذات الوقت الذي ارتكبت فيه أبشع الجرائم بحق شعوب المنطقة، ليس في سوريا واليمن والعراق وحسب، بل في عموم المنطقة؛ بهذا الحشد المذهبي الرهيب، وبضرب ربيع الشعوب العربية، إذ لولا ما جرى في سوريا، لما نجحت الثورة المضادة العربية في ضرب ربيع العرب على النحو الذي تابعناه.
لقد كان بوسع إيران أن تنحاز للشعوب (وهي الأكثر عداء للمشروع الصهيوني). وما كان لنظام جديد في سوريا يعبّر عن ضمير الشعب أن يعاديها لو لم تقف من ثورته ذلك الموقف القاتل، كما كان بوسعها القبول بنظام عادل في العراق للشيعة فيه الدور الأكبر؛ بدل تبني النهج الطائفي المدمّر، فضلا عن أن تدفع أقلية إلى الانقلاب على ثورة الشعب في اليمن، وتتسبب في هذا النزيف الكارثي.
نقول ذلك، وموقفنا واضح من الطرف العربي الذي يمثل الثورة المضادة، والذي ساهم بجرائم لا تحصى بحق الأمة، وهو اليوم يتقرّب من الكيان الصهيوني، بدعوى مواجهة إيران، فيما بدأ يصوّب نظره نحو تركيا أكثر من إيران، ولذات السبب ممثلا في رفضه لأشواق الشعوب في الحرية والتحرر.
كل ذلك يعيدنا إلى السؤال الكبير الذي طالما رددناه ممثلا في سؤال متى ستعود قيادة إيران الحقيقية إلى رشدها، وتوقف هذا النزيف، وهذا العداء مع المحيط العربي والإسلامي، والذي يمكن أن يبدأ من سوريا بقبول تغيير يرضي الشعب؛ وإن أصبح بوتين هو الوصيُّ العملي، وبقبول نظام عادل في العراق، وبوقف عدوان الحوثي وقبوله بحل مقبول بدل استمرار هذا النزيف المدمّر، إلى جانب تصحيح الوضع القائم في لبنان بوقف تهميش السنّة، وترك مشروع تحالف الأقليات الذي يروّج له ميشال عون؟
حتى يحدث ذلك، سيبقى نزيف الشعب الإيراني، ونزيف شعوب المنطقة، وستبقى الثورة المضادة تمارس غطرستها، فيما لا يربح من ذلك كله سوى الكيان الصهيوني الذي سارت إيران في كل تلك المغامرات بدعوى مقاومته.