هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أهم ما أصاب الاقتصاد العالمي في الأيام الأخيرة أمران: تبعات انتشار فيروس كورونا من جهة، وحرب النفط التي شنّتها المملكة السعودية، التي لا تني تسير على درب التحوّل إلى مملكة سلمانية تحت قيادة متولّي العهد، محمد بن سلمان. وتقوم الحرب المذكورة على قرار المملكة زيادة إنتاجها النفطي بصورة هامة، مع منحها حسومات تصل إلى حدّ عشرين بالمئة على أسعار نفطها.
وقد كثرت التعليقات على تلك الحرب التي تعزيها الرواية
السائدة إلى غضب الرياض من موسكو لرفض هذه الأخيرة تخفيض إنتاجها النفطي نزولا عند
رغبة المملكة واحتراما لقرار التخفيض الذي أملته هذه الأخيرة على منظمة الدول
المصدّرة للنفط (أوبيك). فتصبح الحرب وفق الرواية السائدة حربا شنّتها المملكة على
روسيا بغية تلقينها درسا، وهي رواية يصعب تصديقها.
أما السبب الأول الذي يدعو إلى التشكيك في تلك
الرواية فهو أن المملكة سوف تتضرّر من الأمر أكثر ممّا سوف تتضرّر روسيا. ولو خشيت
موسكو من التهديد السعودي لرضخت للابتزاز مثلما اضطرت إلى الرضوخ بعد «حرب النفط»
السابقة التي شنّتها الرياض في عام 2014. فقد عقب تلك الحرب تعاون بين روسيا
والأوبيك على إبقاء الإنتاج ضمن حدود تضمن مستوى من الأسعار مقبولا من شتى
الفرقاء. وإذ تعلم موسكو أن الطلب على النفط قابل على انخفاض محتوم بسبب أثر فيروس
كورونا الكبير على الحركة الاقتصادية، ولاسيما حركة النقل العالمية التي هي مصدر
رئيسي للاستهلاك النفطي، آثرت أن تتشبّث بموقفها الرافض، بل دعت إلى إلغاء التقييدات
السابقة على الإنتاج النفطي.
هذا وقد ردّت موسكو على القرار السعودي
بتأكيدها على أنها لا تبالي حتى لو بقي سعر النفط منخفضا مدة عشر سنوات، حيث راكمت
في السنين الأخيرة 170 مليارا من الدولارات في صندوق مخصّص لمواجهة مثل الوضع الذي
هدّدت الرياض بخلقه. وتراهن موسكو في الحقيقة على أن المملكة لن تستطيع إطالة أمد
كسرها المتعمّد لأسعار النفط الخام، إذ إنها تحتاج لسعر يناهز 80 دولارا للبرميل
كي تغطّي احتياجات موازنتها.
صحيح أن الرياض تحوز هي أيضا على احتياطي مالي كبير،
بالرغم من انخفاضه بنسبة الثلث إلى ما يناهز 500 مليار دولار منذ حربها النفطية
السابقة، بيد أن المملكة أكثر اعتمادا بكثير على النفط مما هي روسيا. فإن النفط
الخام يشكّل ثلث الصادرات ومصدر ثلث مداخيل الدولة في روسيا بينما يزيد عن ثلاثة
أرباع الصادرات وتناهز حصته 90 بالمئة من مداخيل الدولة في المملكة.
فإن هبوط سعر النفط الخام
إلى حوالي 35 دولارا للبرميل إثر شنّ المملكة لحربها إنما يؤذيها هي بالذات شديد
الأذى، بحيث لا تستطيع أن تُبقي على هذه الحال لوقت طويل بدون أن يكون للأمر
انعكاسات هامة على نفقات الدولة السعودية ومشاريعها، ناهيكم من اقتصاد البلاد برمّته.
ولو أضفنا إلى ما سبق أن «حرب النفط» قد تسبّبت بسقوط حاد لسعر أسهم شركة أرامكو
التي فرض بن سلمان على أثرياء المملكة شراءها ـ وقد أنهى ذلك أي ثقة بمتولّي العهد
كانت لا تزال لدى أوساط الأعمال المحلّية والدولية ـ لتبيّن لنا أن المملكة هي
أكثر تضرّرا من روسيا في «حرب النفط» التي تدور رحاها حاليا.
والسؤال الذي يفرض نفسه تاليا هو: أين عرّاب
المملكة الأمريكي مما يدور؟ لنبدأ بوكالة الأنباء الرسمية الأمريكية، ألا وهي
تغريدات دونالد ترامب. فقد علّق يوم الاثنين على الخلاف السعودي-الروسي بالعبارة
التالية: «جيّد للمستهلك، فإن أسعار البنزين في انخفاض!».
والحقيقة أن هذا الانخفاض يناسبه تماما في حملته الانتخابية، إذ يساهم في الحدّ من وقع أزمة الفيروس على الاقتصاد الأمريكي، ومن المعلوم أن الاقتصاد حجة رئيسية لدى ترامب في سعيه وراء الفوز بولاية رئاسية ثانية.
أما النفط الصخري الذي تطوّر استخراجه في
السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة بحيث أعاد إنتاجها النفطي إلى المرتبة
العالمية الأولى، فسوف يتضرّر بالتأكيد من انخفاض الأسعار ويضطر قسم كبير منه إلى
تعليق الاستخراج لأن تكلفته باتت تزيد عن سعر مبيع ما يتم استخراجه. إلّا أنه قطاع
معتاد على تموّجات الأسعار وعلى الإغلاق ومن ثم إعادة العمل عندما تسنح الظروف،
مثلما فعل إزاء «حرب النفط» قبل ست سنوات.
هذا لا يعني بالطبع أن المملكة شنّت حربها
لتسهيل معركة ترامب الانتخابية، فهو اعتبار محدود الشأن نسبيا. المهم هنا هو أن
تلك الحرب لا تزعج ترامب، ولو أزعجته لامتنعت الرياض عن الخوض فيها بالتأكيد. فلا
يبقى في ميدان دوافع المملكة إلى شنّ «حرب النفط» سوى دافع واحد، إنما هو أساسي، وقد كمن وراء ما فعلته في عام 2014. في تلك السنة، جاءت «حرب النفط» حربا على
إيران بالدرجة الأولى، وقد أدرك ذلك الحكّام الإيرانيون واستنكروه بشدّة.
والحال
أن اختناق الاقتصاد الإيراني الراهن والتقلّص الحاد الذي أصاب موارد الدولة
الإيرانية كانا عاملين أساسيين في إفلاح الرئيس الإيراني روحاني ومن لفّ لفّه من
«المعتدلين» في إقناع جناح «حرس الثورة الإسلامية» المتشدّد بالقبول بالشروط التي
أملتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في الملف النووي، وصولا إلى
الاتفاق بشأنه الذي جرى التوقيع عليه في العام التالي لشنّ المملكة لحربها النفطية.
أما اليوم فإن الإدارة الأمريكية الحالية،
التي جعلت من «تغيير النظام» في إيران هدفا رئيسيا من أهدافها، ترى أن النظام
الإيراني في ورطة خطيرة إذ أن سوء إدارته لأزمة فيروس كورونا، التي تشير مصادر
عدّة إلى أنها أخطر بعد مما تعترف به الرواية الرسمية، من شأنه أن يفاقم كثيرا
أزمة اقتصادية نجمت عنها حتى الآن سلسلة انتفاضات شعبية متزايدة الاتساع والخطورة.
فمن المرجّح أن يكون هذا الاعتبار المشترك بين واشنطن والرياض هو الدافع الرئيسي
وراء «حرب النفط» الجديدة التي شنّتها المملكة السعودية، وقد موّهتها على أنها
صراع مع روسيا لعدم جرأتها على إعلان حرب اقتصادية مكشوفة على إيران خوفا من أن
تردّ هذه الأخيرة بإجراءات حربية غير مجازية.
عن صحيفة "القدس العربي"