لا يمكن الإنكار أن فلسطين وقضيتها تعيش في واحدة من أكبر أزماتها التاريخية منذ الاحتلال على صعيد الموقف الرسمي العربي. يتسارع التطبيع مع الاحتلال تحت الطاولة أحيانا وفي العلن أحيانا أخرى، وتجري اللقاءات الرسمية التي يشارك فيها مسؤولون عرب مع سياسيين من تل أبيب، وتتقدم العلاقات التجارية والاقتصادية خصوصا في قطاع الأمن السيبراني والتكنولوجيا بين دول عربية ودولة الاحتلال، ويقتصر الموقف العربي الرسمي في معظمه تجاه "صفقة ترامب نتنياهو" على بيانات خجولة لا تصل حتى لدرجة الإدانة التي كانت محط سخرية شعبية سابقا وأصبحت الآن حلما بعيد المنال.
ولم يعد مستغربا، والحال هذه، أن يصبح التطبيع العربي مع الاحتلال مادة أساسية في حملات نتنياهو الانتخابية!
ولكن، بالتزامن مع موجة التراجع العربي الرسمي في دعم القضية الفلسطينية، ثمة ظاهرة تتصاعد في الدول الغربية، تتمثل بتقدم أنصار تقليديين لفلسطين وقضيتها بشكل لافت في أكثر من بلد غربي، وخصوصا في بريطانيا وجمهورية إيرلندا والولايات المتحدة.
بالتزامن مع موجة التراجع العربي الرسمي في دعم القضية الفلسطينية، ثمة ظاهرة تتصاعد في الدول الغربية، تتمثل بتقدم أنصار تقليديين لفلسطين وقضيتها بشكل لافت في أكثر من بلد غربي، وخصوصا في بريطانيا وجمهورية إيرلندا والولايات المتحدة
كان وصول الزعيم العمالي والمؤيد التقليدي لقضية فلسطين
جيرمي كوربين لقيادة حزب العمال حدثا كبيرا في السياسة البريطانية، فهو اليساري القادم من هامش السياسة البريطانية إلى مركزها، ما جعله يتعرض لأكبر حملة مقاومة من خارج الحزب وحتى من قيادات العمال البرلمانية.
واجه كوربين حملة إعلامية كبيرة، وكانت الاتهامات "بمعاداة السامية" في حزب العمال أحد عناصر هذه الحملة الرئيسية، واستخدمت مواقفه من فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي وعلاقاته بمؤسسات وشخصيات فلسطينية كأحد أدوات هذه الحملة، وخسر في الانتخابات التي أجريت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي لأسباب كثيرة، أهمها الانقسام الشعبي البريطاني تجاه الخروج من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت).
مع خسارته المدوية، حاول كثير من خصوم كوربين الترويج لفكرة نهاية تياره في حزب العمال، وركز كثيرون على أن الاتهامات بمعاداة السامية هي السبب الرئيسي في خسارته، مع أن الدراسات المقارنة للانتخابات في عامي 2017 و2019 أظهرت أن السبب الرئيسي للخسارة هو موقف الحزب من البريكسيت. وبغض النظر عن الأسباب الحقيقية والمركبة للخسارة، إلا أن التحضيرات التي يشهدها حزب العمال لانتخاب قائد جديد تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن "الكوربينية" لا تزال تمتلك الزخم الأكبر في الحزب، بل إن غالبية المرشحين لقيادة العمال خلفا لجيرمي كوربين هم من تياره، كما أن كثيرا من الحملات الموجهة ضد بعضهم، وخصوصا "ريبيكا لونغ بيلي" تتهمهم بأنهم صورة أخرى عن جيرمي كوربين.
التحضيرات التي يشهدها حزب العمال لانتخاب قائد جديد تؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن "الكوربينية" لا تزال تمتلك الزخم الأكبر في الحزب
ماذا يعني هذا بالنسبة للقضية الفلسطينية؟ في الغالب أن ما يعنيه ذلك هو أن قيادة العمال القادمة ستكون ذات مواقف جيدة وعادلة تجاه فلسطين، بغض النظر عن اسم القائد الجديد، وإن كنا نعتقد أن لا أحد يمكن أن يصل لدرجة المواقف التي كان يتبناها كوربين، خصوصا بعد تصريحات بعض المرشحين التي هاجمت كوربين في ظل حملة انتخابية محمومة.
وفي الجنوب الغربي لبريطانيا، يظهر لاعب جديد بقوة في السياسة في جمهورية إيرلندا، حيث
تقدم حزب "الشين فين" لأول مرة ليصبح الحزب الأول في الجمهورية، بعد أن ظل لسنوات طويلة حزبا هامشيا. ويحتل الفرع الآخر من الحزب المركز الثاني في برلمان إيرلندا الشمالية "التابعة للمملكة المتحدة"، وهو ما يعني أن الحزب أصبح رقما صعبا في طرفي إيرلندا، وهو الحزب الذي عرف دائما بتأييد القضية الفلسطينية بدون تحفظ.
الشين فين أصبح رقما صعبا في طرفي إيرلندا، وهو الحزب الذي عرف دائما بتأييد القضية الفلسطينية بدون تحفظ
إذا قدر لك أن تذهب لإيرلندا الشمالية، فلا يمكن إلا أن تدهش من حجم التأييد لفلسطين في المناطق التي يمثل فيها "الشين فين"
أغلبية برلمانية وشعبية، ولا يمكن إلا أن تمر على الجداريات "الجرافيتي" المنتشرة في هذا المناطق والتي تتحدث عن قضية فلسطين وتأييد الشعب الفلسطيني، ومنها جداريات مكتوبة بلغة عربية فصيحة!
وإلى الغرب من المحيط الأطلسي يتصاعد تأثير أنصار فلسطين في خارطة السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلين بالسيناتور
المخضرم بيرني ساندرز، الذي حقق انتصارا واضحا في الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الرئاسة عن الحزب الديمقراطي في ولاية هامبشر، بعد خسارته بنسبة طفيفة جدا في ولاية أيوا الهامة والرئيسية. ويعرف ساندرز بآرائه اليسارية وتأييده الواضح للقضية الفلسطينية، وقد أعلن رفضه وتنديده بصفقة ترامب- نتنياهو المعروفة باسم "صفقة القرن".
ولم يقتصر رفض صفقة القرن على ساندرز، بل أيده في ذلك مجموعة من كبار قيادات الديمقراطيين في مجلسي الشيوخ والنواب، فيما تشير تقارير صحفية إلى أن تأييد "اللوبي الإسرائيلي" الرئيسي (آيباك) في الولايات المتحدة لم
يعد كما كان سابقا، وأنه لم يعد محل اتفاق بين الحزبين الرئيسيين في أمريكا.
يتصاعد تأثير أنصار فلسطين في خارطة السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، ممثلين بالسيناتور المخضرم بيرني ساندرز
يبقى القول إن تصاعد تأثير أنصار فلسطين في السياسة الغربية لا يعني بالتأكيد حصول تغيير جذري في المواقف الغربية الرسمية تجاه الصراع، ولكنه ظاهرة تستحق التوقف والاحتفاء، خصوصا في ظل تراجع الاهتمام والتأييد الرسمي العربي للفلسطينيين، بل الانتقال لمرحلة ممارسة الضغط عليهم بدلا من تأييدهم!