هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يبدو أن لقاء الجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي في السودان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا الاثنين الماضي، إحدى الصفقات الصغرى المكملة لصفقة القرن أخطر كارثة تحل بالقضية الفلسطينية. البرهان الذي لم يحمل أي تفويض بل حتى رئيس وزرائه عبد الله حمدوك لا يعلم مجرد العلم كما أبان وزير الإعلام في حكومته، زعم أن لقاءه مع نتنياهو جاء من موقع مسؤوليته تجاه تحقيق المصالح العليا للشعب السوداني.
ليس السودان دولة من دول الطوق أو الدول القريبة جغرافيا من إسرائيل بل يعتبر خارج نطاق المحور الشرق أوسطي وتعقيداته حتى يتعلل البعض بضرورات الجغرافيا السياسية ويتخذ ذلك ذريعة للتعاطي مع الدولة العبرية.
ولم تأت أولى خطوات التطبيع السوداني الإسرائيلي بما يحفظ ماء الوجه مثل مصر والأردن والسلطة الفلسطينية عقب اتفاقية كامب ديفيد ثم مؤتمر مدريد ثم اتفاق أوسلو بزعم أن الحكومة الإسرائيلية حكومة سلام يتصدرها حزب العمل، إلا خطوة البرهان جاءت في أسوأ توقيت حيث اعلن عن صفقة القرن وهي اكبر كارثة تحل بالقضية الفلسطينية في تاريخها وفي ظل حكومة يمينية متطرفة يرأسها بنيامين نتنياهو.
ولعل الزعم بأن ذلك يأتي في اطار المصالح الوطنية ليس إلا تبريرا لصفقة بين البرهان والفاعلين في المجتمع الدولي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية التي يسعى رئيسها دونالد ترامب إلى تسويق صفقة القرن.
فالبرهان ينوي الاحتفاظ بالسلطة والانقلاب على شركائه المدنيين بعد أن قضى وطره منهم وبعد أن بقي نحو عام لأجل تبادل رئاسة مجلس السيادة معهم. فالفترة الانتقالية التي أعقبت الإطاحة بنظام البشير أبريل الماضي مدتها 39 شهرا، يرأس فيها البرهان مجلس السيادة لمدة 21 شهرا بينما يرأسه أحد المدنيين بالتبادل 18 شهرا. ومكافأة تطبيع العلاقات مع إسرائيل للبرهان دعم دولي كبير وتأمين لخطوات قادمة في سبيل احتفاظه بالسلطة وقلب ظهر المجن للمدنيين في تحالف قوى الحرية والتغيير وحكومتهم برئاسة حمدوك.
ولو أن البرهان قام بأي تحرك يغضب المدنيين غير التطبيع مع إسرائيل لوجدوا دعما دوليا إلا في هذه المسألة، ولذلك التزم حمدوك ورهطه الاحتجاج الخجول والمكتوم. ليس هذا فحسب بل إن البرهان بهذا الدعم الأمريكي يكون قد أمن موقفه تجاه أي تحرك من نائبه قائد الدعم السريع المشهور بحميدتي. وبلقاء نتنياهو أثبت البرهان أنه في سياق ركب صفقة القرن سائر ومهلل ومبارِك وأثبتت حكومة حمدوك أنها لا تعدو أن تكون واجهة مدنية مغرر بها لانقلاب عسكري قاده البرهان وأن الذي يجمع بين الشركاء "العسكريين والمدنيين" هو نهم كراسي السلطة.
يشار إلى أن لقاء البرهان بنتنياهو مخالف لقانون مقاطعة إسرائيل لسنة 1958 في السودان وتنص المادة 2 على أنه يحظر على أي شخص أن يعقد بالذات أو بالواسطة اتفاقا من أي نوع مع هيئات أو أشخاص مقيمين في إسرائيل أو مع أشخاص يعلم أنهم ينتمون إلى إسرائيل أو يعملون لحسابها.
المدهش أن الرئيس الموريتاني الأسبق معاوية ولد الطايع عندما طبع علاقات بلاده في 1996 مع إسرائيل زعم أن المصالح العليا تستوجب ذلك. يشار أن موريتانيا لم تحصد إلا سرابا من علاقاتها مع إسرائيل إلى أن تم تجميدها لاحقا في يناير 2009 في عهد الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز بعد قمة غزة في الدوحة ثم قطعها بشكل نهائي في 22 مارس 2010. وقد رعت إسرائيل مشروعا تافها لحماية النخيل بيد أن واحات النخيل هناك أصيبت بداء (البيوط) وفي الوقت ذاته دخلت إلى موريتانيا بضائع إسرائيلية منها التمور المعلبة والملابس الجاهزة. بل إن المعارضة اتهمت نظام ولد الطايع بالتستر على دفن نفايات نووية إسرائيلية في صحراء موريتانيا.
إن سياسة التغلغل الإسرائيلي في القارة الأفريقية تهدف إلى إحداث فجوة في العلاقات العربية - الأفريقية، فضلا عن أن إسرائيل لا تسمح لدولة مثل السودان بأن تكون موحدة وقوية ومستقرة، لأنها تعلم أن كل مقومات الدولة الكبرى تتوفر في السودان وهذا ما أعلنه من قبل وزير الأمن الإسرائيلي ولذا سيسهل التطبيع وإقامة سفارة إسرائيلية في الخرطوم عمل جيوش عملاء الموساد.
والعراق كان حالة مماثلة يمثل تهديدا لأمن إسرائيل بإمكاناته وموارده الضخمة فدمرته الولايات المتحدة الأمريكية حتى غدا شزرا مزرا. ومن عادت إسرائيل أنها تركز على التعاون العسكري والمخابراتي فمثلا قبل أن يكتمل افتتاح سفارة إسرائيلية في جوبا عاصمة دولة جنوب السودان افتتح مكتب للمخابرات الإسرائيلية هناك. وكان فصل جنوب السودان في يوليو 2011 مرحلة أولى في تحطيم هذا القُطر القارة ففي العام 2015، سمحت الرقابة العسكرية بصدور كتاب تضمن تفاصيل عن تدخل جهاز الاستخبارات والعمليات الخاصة "الموساد" في عملية فصل الجنوب، الأمر الذي أعتبر إنجازا إسرائيليا ونجاحا خاصا للموساد.
ولا تقف المخططات الإسرائيلية في السودان عند حد فصل جنوب البلاد بل تشمل تقسيم السودان إلى دويلات متعددة على أساس عرقي وطائفي ومذهبي عبر معاول مخابراتية، وحددت للسودان خمس دويلات بالشمال والجنوب والشرق والغرب وجبال النوبة. ويتم ذلك بمساعدة ظروف تسهم فيها الإدارة غير الرشيدة للأزمات السودانية من قبل النخب الحاكمة والمصطرعة على السلطة، مثل استغلال ضعف الاقتصاد بعد خروج النفط عقب الانفصال. واستثمار تداعيات الحصار الاقتصادي المتطاول وصولا إلى حافة الغلاء المستحكم ثم الانهيار الشامل. ولقد بدأت المخططات الإسرائيلية تجاه السودان بشكل مكثّف في الخمسينات من القرن الماضي؛ فقد أشار إليها ديفيد بن غوريون مؤسس دولة إسرائيل. وكانت قمة الخرطوم في عام 1967، والتي عرفت باللاءات الثلاث "لا تفاوض، لا تصالح، لا اعتراف" بمثابة ناقوس خطر للدولة اليهودية حيث أيقنت إسرائيل أنه لولا هذه القمة ما توحد العرب ضدها واعتبرتها أنجح قمة للعرب، حيث خرجت بقرارات كان لها أثر كبير في الصراع العربي الإسرائيلي.
(الشرق القطرية)