كتاب عربي 21

"لايكات" صينية طاهرة من رجس الكورونا

أحمد عمر
1300x600
1300x600
زعموا أنَّ المرأة انتصفت بعد اختراع آلة الخياطة، وأنَّ الإنسان سَعِد بالآلة عموماً، لكن الحق أنَّ الآلة الصناعية شرّدتْ عمالاً، والآلة العسكرية شرّدتْ شعوباً. فقد نافست الآلة الإنسان ونفته، وزادت وحدته وشقاءه أيضاً، فالشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده. وهناك أفلام كثيرة عن الآلة الفرانكشتاين التي قتلت الإنسان، أشهرها وأولها فيلم "الأزمنة الحديثة" لشارلي شابلن، ورواية دون كيخوته التي يقال إنها أعظم رواية، ولا تزال على رأس أفضل الروايات في العالم.. هي رواية ضد الآلة والحداثة بالخيال والعناد، وكانت الآلة قد أراحت الإنسان عضلياً، لكنها زادت شقاءه نفسياً وعزلَتْه.

أراح العنكبوت الآلي غوغل الإنسان فكرياً، لكنه جعله أسيراً ووحيداً، حتى إنَّ المفكر والباحث المصري عبد الوهاب المسيري رأى في الحداثة الأمريكية وما فعلته بالجنس الأمريكي لعنة، فإذا اجتمع ذكر أمريكي مع أنثى لا يكون ثالثهما الشيطان، وعدّها نعمة أن يكون ثالثهما، وتنبأ بالإنسان الوحيد المتوحد، فهناك جنس ثالث ينمو ويكبر.

وسمعنا عن جيوش الذباب الإلكتروني التي تزور الحق وتنصب الباطل، وشاع الحبَّ الإلكتروني، ونشأت القبائل الإلكترونية. وقد سألني كاتب معروف مرة، وهو يحطّني ويرفعني بنظره من منزل عال إلى خفض، سؤالاً فظاً: ما بلغ من جاهك الإلكتروني؟ ولما عرفتُ مقصده قلت: في أحسن الأحوال، وفي مواسم الخصب، أحصّلُ سبعين لايكاً، كلها من فم الذئب من غير تخدير ولا طبيب أسنان.. والعدد سبعون عند العرب يعني الكثرة، ورقم سبعة هو سبع الأرقام وليثها وقسورتها، فقال متفاخراً: أنا أصدقائي بلغوا عشرة آلاف مسوّمين. فقلت في نفسي ما قاله أبرهة الحبشي لسيد مكة عبد المطلب عبر ترجمانه: لقد كنتَ أعجبتني حين رأيتك، ثم قد زهدتُ فيك حين كلمتني؛ أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك، قد جئت لأهدمه، لا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب: إني أنا ربُّ الإبل، وإنَّ للبيت رباً سيمنعه. وكدت أقول لصاحبي: ثكلتك أمك، أتكلمني في لايكات الكترونية، والكعبة في خطر؟ وكاد أن يقول: أنا ربُّ اللايكات، والكعبة صارت في البحر الأحمر.

قال الراوي (الذي هو كاتب السطور): إنَّ صاحبي قلاني وجفاني، ثم حظرني، ليس لأنه يقصر صحبته الإلكترونية على أصحاب رؤوس اللايكات الكبيرة، إنما لأنَّه يهوى قناة العربية، وأنا أبغضها.. وزعم صديق إلكتروني معروف أنَّ نجوى قاسم كانت أفضل مذيعة في العربية، وشكك في أسباب وفاتها.

أمس وُزعتْ شهادات وخُلعتْ تيجان، وتباهت أحلام مستغانمي بأنها الثانية مُلكاً على عرش السوشال ميديا بعد خديجة بن قنة.. وخديجة مذيعة معروفة، حسناء وفصيحة، شجاعة وقوية الحضور، وكانت شعبية خديجة قد كبرت وربتْ، عندما توارت بالحجاب، ثم صارت ملكة، وأحيت اسم خديجة بعد أن قتلته الطبقة المخملية.. أما مستغانمي، فملكها الالكتروني هو حصيلة حبرها، وهي امرأة صاحبة إنشاء، ووجدتها أكثر الكاتبات قراءة بين الجنسين من الشباب، وكان نزار قباني قد أثنى على كتابها الأول، وإنه لو كتب، لكتب مثلها، إلا أني لم أستطع قراءتها سوى بصعوبة، بسبب إسرافها في الإنشاء والصنعة، والكتابة الحسنة عندي هي التي توزان بين أنواع البديع، فالنص الحسن هو الذي لا تغلب فيه "صناعة الإنشا على صبح الأعشى".

أعرف أنَّ أحد أسباب اعتقال سلمان العودة، سوى اعتناق ابن سلمان لدينه الجديد، هو الحسد والغيرة، فلديه ثلاثة عشر مليون متابع، وهم يحبونه، ولفيصل قاسم صاحب الاتجاه المعاكس مثل ذلك من المتابعين، وإني أحبه في الله، لكني لا أجد على صفحته سوى ثلاثة آلاف لايك في أحسن الأحوال، فأكثر متابعيه من الخلايا غير النائمة، وظهره وظهري إلى الحائط الساقط. ووجدت أنَّ النظام السوري الأحمق بالغه في استعدائه، وسطا على بيته، فجعل فيصلا من ألد إعدائه، والحمد لله على حمق النظام.

قال الشاعر عمرو بن معد يكرب: ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا. وفي الحديث: إِنَّمَا النَّاسُ كَالإِبِلِ المِئَةِ، لاَ تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا راحلة. وشرح الحديث: لا تَجِدُ فِي مِئَةِ إِبِلٍ رَاحِلَةً تَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ، لِأَنَّ الَّذِي يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَطِيئًا سَهْلَ الِانْقِيَادِ، وَكَذَا لَا تَجِدُ فِي مِئَةٍ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَصْلُحُ لِلصُّحْبَةِ، بِأَنْ يُعَاوِنَ رَفِيقَهُ وَيُلِينَ جَانِبَهُ.

بين ذكر وأنثى، يتبادلان الحب والغرام وأنجبا "سي دي"! و ما دمنا في سيرة الحب وهي عنوان أغنية لأم كلثوم، لا أعرف بعد عقد ما يكون حال الثقافة الألمانية، والسوريون يقبلون عليها تعلما وعذابا، وكنت أقول لمدرّستنا الصبية الكاعب اللطيفة التي أحبتْ أن تتعلم بعض الكلمات العربية الشهيرة: إني أحبك في الله، ثم علمت أنَّ زملائي عرباً وكرداً وأمازيغ جميعاً، أتقياء مثلي وأحبوها في الله! وكتب لي صديق كاتب، أنه قاطعني، وصرمني لأني لا أبادله لايكاً بلايك، فالحبُّ أخذ وعطاء، لكنه عندي أخذ فقط وسلب ونهب. وكان العاشق فيما مضى يحتفظ بمنديل الحبيب، لكن اللايك لا رائحة له.

وكما أنَّ للحرب أمراء، كذلك للحبِّ الالكتروني أمراء، وهم الإعلاميون ومشاهير التواصل الاجتماعي، الذين تستجدي الحكومات دعمهم، أو ترفق بهم، وتسترضيهم، وتمدّهم بالمال على ولائهم وإرشادهم وتضليلهم. وكان وفدَ على دولة عربية خليجية أمير من أولئك الأمراء، وسخط عليها لأنها عاملته مثل مواطن عادي، ولم تعامله معاملة الأمراء، فأطلق رشقة من التغريدات الغاضبة، لأن الدولة لم تحسن وفادته. عُرِّف الحب الحقيقي في آلاف الأبيات الشعرية وآلاف الأغاني، وغنّت شادية له: "الحب الحقيقي ما ينتهيش طول السنين". أبادل بعض الكتّاب حباً حقيقياً، وذكّرتُ مرة أحدهم بنفسي فقال ما قاله بخيل مرو لضيفه: عندي مليون متابع، ولو خرجت من جلدك ما عرفتك.

الصناعة الصينية مشهورة بالسرعة والانتشار والسوء، وكذلك لايكاتها، وقد داهمها مرض الكورونا، وتذكرنا الفيتو الذي قتلنا به الأسد، وعلى معسكرات تغيير دين المسلمين فيها وإكراههم على لحم الخنزير، ونسائهم على النوم في أسرّة الشيوعيين. وذكر أناس أنها لعنة أكل الكائنات الحية، فهم يأكلون الفئران حية، بعد تعميدها في مرقة، والخفافيش بعباءتها وأنيابها، أما الجراد والصراصير فلا بأس بها، وكان أسلافنا يأكلونها مثل الفستق، وأظني لو هلكت جوعاً ما أكلت ما يأكلون. اللايكات الحقيقية هي التي تودي بصاحبها إلى التهلكة.

قال صاحبي نوري في ساعة صفاء وإشراق: أفضل اللايكات هي لايكات الملائكة، وأظنُّ أنَّ الكلام منحول، نسَبه إلى نفسه، ومن ذلك أن مرَّ سليمان بنُ داود (عليهما السلام) في موكبهِ والطيرُ تُظِلهُ، والجن والإنسُ عن يمينه وشماله، فمرَّ عابدٌ من عبَّاد بني إسرائيل فقال: واللهِ يا ابن داود، لقد آتاكَ اللهُ مُلكًا عظيما، فسمعَ سليمانُ كلمته فقال: تسبيحةٌ في صحيفةِ مؤمنٍ خيرٌ مما أُعطيَ ابنُ داودَ، وما أُعطيَ ابنُ داود يَذهبُ والتسبيحةُ تبقى.

هناك متاجر لايكات، واللايكات الصينية رخيصة، لأنَّ الصناعة الصينية غير محمودة. هناك مشاهير يبيعون شهرتهم ويتاجرون بها، مثل ذلك الإعلامي المستكرد الذي يظهر كل يوم ساعتين، ويقول جملتين أو ثلاث، ويكررهما على أنغام الموسيقى والقلوب الحُمر تمطره مطرا.

كل شيء يذهب ولايكات الملائكة تبقى. ومن الجدير بالذكر أنَّ العابد قال: ابن داود ولم يقل يا صاحب الجلالة، أو سيادة الرئيس، وإلا ما كان عابدا من عباد الله.
التعليقات (0)