هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا يوجد دولة في المنطقة العربية مؤهلة للعب دور إقليمي مثل مصر، وهي الوحيدة التي يمكن أن تلعب دورا منافسا لطرفي المثلث الإقليمي التركي الإيراني، ومواجهة مشروع الاحتلال الإسرائيلي أيضا.
لسنا هنا في وارد الحديث باستفاضة عن الأسباب المؤهلة لمصر للعب هذا الدور، لأن هذه الأسباب هي من كلاسيكيات العلاقات الدولية التي يعلمها كل متابع للسياسة، ولكننا نشير بعجالة إلى الموقع الجغرافي قرب فلسطين وما يمثله من أهمية دولية بسبب أهمية الصراع العربي الإسرائيلي في المعادلة الدولية، إضافة لموقعها المتوسط بين آسيا وإفريقيا ومشاطأتها للبحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط الذي يطل على دول أوروبية أيضا، وأخيرا وليس آخرا أنها تمتلك عددا كبيرا من السكان وهو عامل يمكن أن يمثل نعمة ووزنا سياسيا واستراتيجيا لأي دولة إذا أحسنت التعامل معه.
وعلى الرغم من هذه المؤهلات الجيواستراتيجية، إلا أن مصر فقدت كثيرا من وزنها الإقليمي خلال العقود الماضية، وتراجعت عن لعب أدوار مهمة في ملفات الشرق الأوسط من جهة، وأفريقيا من جهة أخرى. فما أسباب هذا التراجع؟ وكيف يمكن استعادة الدور الإقليمي لمصر؟
فقر السياسة الخارجية
يعتمد الدور الإقليمي لأي دولة على أسباب عديدة، من ضمنها قوة السياسة الخارجية، وبناؤها على أسس صحيحة تأخذ بعين الاعتبار قدرات هذه الدولة، وأوراق قوتها وضعفها. وإذا نظرنا إلى دول المنطقة، فلن نجد دولة تلعب دورا إقليميا إذا كانت سياستها الخارجية غير نشطة وغير متحركة بناء على تطورات الواقع، كما لا يمكن لأي دولة أن تنجح في سياساتها الخارجية إذا بنت هذه السياسة كليا على عامل واحد مرتبط بسياستها أو صراعاتها الداخلية.
تتأثر السياسة الخارجية لأي دولة بلا شك بالعوامل الداخلية، وتلعب المنافسة الحزبية والانتخابية أحيانا دورا في صناعة السياسات الخارجية حتى في الدول الديمقراطية، ولكن هذه العوامل الداخلية تبقى عنصرا هامشيا في كثير من الأحيان، بل إن السياسات الخارجية التي تتعلق بالأمن القومي في هذه الدول تكون عادة سياسة غير مرتبطة بالصراعات الحزبية "Non- Prtisan"، كما أن تضخم تأثير الصراعات الداخلية على السياسة الخارجية عادة يضعف الدول ودورها الإقليمي أو الدولي.
ويبدو أن مصر منذ انقلاب عام 2013 دخلت في دوامة السياسة الخارجية المبنية على أساس الصراعات الداخلية، بل إن الصراع بين النظام وجماعة الإخوان المسلمين بات وكأنه يحكم كل علاقات مصر الخارجية وسياساتها، مما أضعف الدور الإقليمي لمصر. ومن الأمثلة على ذلك:
• جمد النظام علاقته مع حركة حماس لفترة من الزمن بعد الانقلاب، لأنه يحسبها على تيار الإخوان، فيما كانت العلاقة بين الطرفين قائمة دائما على مقتضيات "الضرورة" ومتطلبات الأمن القومي المصري من جهة ومتطلبات إدارة الوضع في غزة من جهة أخرى. لا وجود للحب والكراهية هنا، ولا تأثير كبيرا على العلاقات بسبب أيدولوجيا حركة حماس، ولكنها علاقة تفرضها حاجة مصر لاستقرار غزة، واستفادتها من لعب دور إقليمي عبر البوابة الأهم في المنطقة وهي الصراع العربي الإسرائيلي. هذا الوضع تغير الآن بشكل لافت، إذ أصبحت العلاقة بين مصر وحكومة غزة في أقل قدر ممكن، بالرغم من التزام حماس والحكومة بما يطلبه النظام المصري من تعاون يخص الأمن القومي لمصر.
وفي هذا الإطار، تورط النظام بإدخال حماس في معادلة الصراع الداخلي مع الإخوان، فحرك القضايا ضدها أحيانا لاتهامها بالإرهاب، وحكم بالإعدام أحيانا على بعض قياداتها ومنهم أسرى في سجون الاحتلال وشهداء، واتهمها بالمسؤولية عن أحداث جرت أثناء ثورة يناير 2011 دون أي دليل. كل هذه الممارسات تؤكد أن مصر تقدم صراعاتها الداخلية مع الإخوان على دورها الإقليمي، وهو ما يضر بمصالحها وسياساتها الخارجية.
• يدعم النظام المصري مشروع اللواء خليفة حفتر في ليبيا، بحجة أنه سيؤمن الحدود الليبية المصرية من الإرهاب (يقصد به تحديدا هنا مواجهة الإخوان)، ولكن واقع الأمر هو أن التأييد المصري ينطلق من عداء حفتر للتيارات الإسلامية في ليبيا، مع العلم أن حكومة طرابلس التي يحاربها حفتر هي من قضت على التيارات الإرهابية "التي لا تريدها مصر على حدودها" في سرت وعدد من المدن الأخرى.
وإذا نظرنا للمصلحة القومية لمصر في ليبيا، فهي تكمن في استقرار هذا البلد، ما يضمن علاقات اقتصادية جيدة بين القاهرة وطرابلس، وتعاون في مجال الطاقة بين البلدين، واستقطاب العمالة المصرية في ليبيا. إن تحقيق كل هذه المصالح لا يمكن أن يتم في دعم طرف يريد تقسيم البلاد وإدامة الحرب فيها، ولكن السياسة الخارجية التي تحكمها صراعات النظام في الداخل تهمل المصالح القومية وتركز على دعم حفتر لهزيمة حكومة طرابلس التي يفترض أنها تنتمي أو تدعم الإخوان، وهذا افتراض يحتاج أصلا للمراجعة.
• لم يدعم النظام المصري حلفاءه التقليديين (السعودية والإمارات) في صراعهما مع الحوثيين باليمن، على الرغم من الدعم الكبير الذي حصل عليه من الدولتين بعد الانقلاب، وعلى الرغم من أن استقرار اليمن هو مصلحة مصرية قومية بسبب اشتراكهما بمشاطأة البحر الأحمر. ويبدو أن امتناع نظام مصر عن دعم حلفائه ينطلق من مخاوفه من استفادة حزب الإصلاح اليمني المحسوب على تيار الإخوان من نتائج الحرب على الحوثيين، وهنا يظهر واضحا أن صراعات النظام الداخلية بدلا من مصالحه القومية حكمت سياساته الخارجية. وإذا كانت الحرب كما نعتقد ليست حلا للصراع في اليمن، فإن الدور الذي يمكن أن تلعبه مصر هو في دعم مسار سياسي ينهي انقلاب الحوثيين، لأن دخول مصر بحجمها الكبير يمكن أن يوجه رسالة للحوثيين ومن ورائهم طهران تدفعهم لتقديم تنازلات للوصول لتسوية سياسية هي في مصلحة الجميع بما في ذلك مصر، ولكن انغماس النظام المصري في الصراعات الداخلية يعطل أي سياسة خارجية نشطة وفاعلة للدولة.
• بشكل عام، أقام النظام كل علاقاته الخارجية بعد انقلاب يوليو 2013 بناء على صراعاته مع الإخوان المسلمين، فدخل في صراعات مع كل الدول التي "يشتبه" أنها داعمة لتيار الإخوان، واتخذ موقفا سلبيا من كل التجمعات الإقليمية التي رأى فيها قربا من تيارات الإخوان وآخرها مؤتمر كوالالمبور. مع أنه كان يستطيع أن يخفف صراعاته الخارجية من خلال سياسة تركز على المصالح مع دول الإقليم التي يختلف مع سياساتها وتوجهاتها، ومن المؤكد أن هذه الدول -حتى التي تتهم بدعم الإخوان- مستعدة هي الأخرى للوصول إلى منطقة وسط بينها وبين مصر، لأن هذا ما يحقق مصلحتها ومصلحة مصر أيضا، ولكن شلل السياسة المصرية الخارجية يعطل هذا.
الدور الإقليمي وسياسة التوافق
بدلا من مبدأ التمحور في السياسة الخارجية المصرية بناء على صراع النظام مع الإخوان، كان يمكن لمصر أن تستعيد دورها الإقليمي لو استخدمت نفوذها وإمكانياتها لتحقيق توافقات تاريخية في المنطقة.
فإذا كانت مصر تخسر اليوم في ليبيا -على الأقل حتى الآن حيث يفشل حليفها حفتر بتحقيق أي انتصار- فإنها يمكن أن تكتسب نفوذا في ليبيا المستقبل إذا استخدمت إمكانياتها لتحقيق توافق بين طرفي النزاع الليبي، بما يضمن الاستقرار بالبلاد، ولنتخيل ماذا ستكسب مصر من حصول توافق ليبي برعايتها، في ظل حاجة ليبيا للاستثمارات وللعمالة وللتعاون في مجال النفط والغاز والأمن.
وفي حين تخسر مصر دورها في القضية الفلسطينية، فإنها يمكن أن تسترجع هذا الدور بلعب دور حقيقي ومحايد في إتمام المصالحة الفلسطينية، ولعب دور أكبر في قطاع غزة، من خلال إقامة علاقة تجارية طبيعية بين القطاع ومصر، وهو ما سيعود على مصر بمكاسب معقولة في ظل ارتفاع الأسعار بغزة مقارنة بمصر. ولكن هذا الدور يحتاج أن تتحرك مصر في سياساتها الخارجية بنشاط، وبعيدا عن استقطاباتها الداخلية والأيدولوجية، وبتحرر أيضا من السطوة الإسرائيلية، ولكن هذا الأمر متعطل أيضا بسبب بناء مصر لعلاقاتها مع الاحتلال بعد الانقلاب على أسس داخلية، إذ يتعامل النظام منذ يوليو 2013 مع الاحتلال باعتباره صمام أمن يدعم شرعيته في الغرب، وخصوصا في الولايات المتحدة.
ثمة أمثلة أخرى على إمكانية لعب مصر لدور إقليمي إذا تبنت سياسة التوافق بدلا من الانحياز لطرف "خارجي" دون آخر بناء على صراعاتها الداخلية، وثمة أسباب أخرى بالطبع لتراجع هذا الدور لمصر غير الفقر في السياسة الخارجية، مثل الفقر وتراجع نسبة التعليم وتآكل الرفاه وضعف الناتج القومي وغيرها من الأسباب الاجتماعية والاقتصادية، ولكن المقال اقتصر على هذه الزاوية لأنها ممكنة ولا تحتاج لإمكانيات كبيرة مثل الأسباب الأخرى. يمكن لمصر أن تحسن مستوى سياستها الخارجية بدون تكلفة، ويمكن لها أن تسترجع جزءا من دورها الإقليمي لو أدركت حقا أن دورها أكبر بكثير من الصراع مع تيار الإسلام السياسي الذي لا يشكل خطرا على أحد، على الأقل في المرحلة الراهنة.