هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
للم يكن للضربة الموجعة التي وجهها ترامب لإيران بتصفية الفريق قاسم سليماني أي سبب، غير رغبته في أن يبدو رئيسا حازما على استعداد لاتخاذ قرارات لم يجرؤ عليها أسلافه وهي مقامرة، في تقديره إن لم تستدعِ ردود فعل من إيران وحلفائها، ستمهد له الطريق للفوز بالرئاسة الأمريكية في ولاية ثانية.
ترامب أراد أن يقدم نفسه للشعب الأمريكي على أنه الرئيس الحازم، الحاسم، القادر على اتخاذ قرارات رفض أن يتخذها أسلافه؛ لأن نتائجها قد تكون كارثة على السلم والاستقرار العالمي.
لم يكن رؤساء أمريكا ممن سبقوا ترامب عاجزين عن إصدار القرارات بتصفية خصومهم السياسيين، لكن تشريع ذلك فيه أولا استهتار بالقانون الدولي، وفيه ثانيا استدعاء لردود فعل قد تجر أمريكا إلى حروب يقتل فيها بالتأكيد عشرات الآلاف من خصومهم ومن الأمريكيين أنفسهم.
يقال إن قرارا بحجم تصفية الفريق سليماني لم يتخذ أبدا من قبل أي إدارة أمريكية سابقة، منذ إسقاط طائرة الأدميرال الياباني اسوروكو ياماماتو العام 1943، الذي أمر بضرب بيرل هاربر قبل ذلك بعامين، ما دفع بالولايات المتحدة لدخول الحرب إلى جانب الحلفاء.
لا أحد عاقلا يرغب في تشريع قتل قادة لدول ومؤسسات دول، لأن ذلك يفتح الطريق لعمليات تصفية، ولا يصبح معنى لأي حصانة دبلوماسية. قتل سليماني الذي كان في زيارة عمل علنية للعراق، يفتح الطريق لاصطياد وزراء خارجية أو قادة جيوش ورؤساء أركان، في أثناء قيامهم بتأدية مهامهم في دول اخرى من قبل خصومهم. لذلك لا يجيز القانون الدولي هذه الأعمال، ومن يقوم بها بلا شك أحمق ولا يكترث لا بالقانون الدولي ولا بنتائج أعماله.
لكن ثقة ترامب المفرطة في أن إيران وحلفاءها لن يجرؤوا على الرد على مقتل سليماني دفعه للقيام بهذه المغامرة. تذكروا بأن ترامب عندما أهدى القدس لإسرائيل معترفا بها كعاصمة لها، قال إن الكثير من السياسيين قد حذروه من أن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل سيشعل الشرق الأوسط، لكن بعد أسبوعين من قيامه بذلك، بقي الشرق الأوسط هادئا كما كان ولم يتغير فيه شيء. هكذا قال متفاخرا!
على هذه الملاحظة، بنى ترامب توقعاته بأن شيئا لن يتغير بعد مقتل سليماني، وأن الجميع، إيران وحلفاءها هنا، سيبلعون الضربة وإن كان على مضض ولن يقوموا بالرد. ولو حصل ذلك، كما يأمل ترامب، فإنه سيفاخر بأنه أقدم على فعل لم يجرؤ عليه أحد من قبله، وأن ذلك قد زاد من قوة الردع الأمريكية، وهذا سيظهره على أنه بطل قومي، على الأمريكيين أن يعيدوا انتخابه.
ترامب لم يبلغ حلفاءه في العالم العربي بنيته القيام بما قام به، ولو فعل ربما لطلبوا منه ألا يفعل، لأن الفريق سليماني وفق رئيس وزراء العراق كان قادما لنقل رد إيران على رسالة وصلت إليهم من العربية السعودية لتهدئة ولتنقية الأجواء بين البلدين. الوحيد الذي تم إعلامه بالضربة كان نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل.
من المبكر الافتراض بأن ترامب نجا بفعلته، ومن المبكر الافتراض بأنه سيتفاخر بما قام به في أثناء النقاشات التلفزيونية التي سيجريها مع خصمه الديمقراطي في انتخابات الرئاسة نهاية هذا العام.
إيران ردت، وردها كان محسوبا بعناية فائقة.
ردت بطريقة حفظت لها ماء وجهها، عندما قامت بقصف قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق. من يجرؤ على مهاجمة قاعدة عسكرية لأمريكا علنا، ويعلن عن ذلك ويتبنى الهجوم؟! هذه مغامرة كبيرة لا تجرؤ عليها إلا دول عظمى، دول لا تخشى الصدام مع أمريكا وعلى استعداد للذهاب أبعد مما قامت به.
لكن الرد الإيراني، جاء أيضا مضبوطا بحسابات إعطاء ترامب فرصة عدم الرد على الرد. وذلك كان ممكنا فقط بتجنب إيقاع خسائر بشرية في صفوف الأمريكيين. ولو وقعت خسائر، نقول ربما ولا نجزم بالطبع، لكان على أمركا ترامب أن ترد، وهو ما يستدعي ردا مقابلا من قبل إيران، ومن ثم الانزلاق باتجاه الحرب المفتوحة التي لا تريدها إيران، ولا تريدها أمريكا، ولا تريدها دول الشرق الأوسط، ولا يريدها العالم أجمع باستثناء إسرائيل بالطبع.
ترامب الذي اضطر لبلع الإهانة بقبول قيام إيران بقصف قواعد أمريكية دون أن يرد، والذي فرح كثيرا ربما لأن القصف الإيراني لم يلحق خسائر بشرية تفرض عليه الرد، عليه أن ينتظر قليلا لأن الرد الفعلي على الأغلب لن يأتيه من إيران، ولكن من حلفائها في لبنان والعراق وسوريا واليمن وأفغانستان.
الذي استمع لخطاب السيد حسن نصر الله، يدرك بأن هنالك قرارا قد تم تنسيقه مع إيران بأن القواعد العسكرية الأمريكية على الأقل في العراق وسوريا، سيتم استهدافها إلى أن يغادر الجنود الأمريكيون البلدين.
نصر الله بالتحديد ركز على فكرة أن حادثة مقتل الفريق سليماني هدفها إنجاح ترامب في الانتخابات، ولأنها كذلك، فإن الرد يجب أن يكون بإسقاطه في الانتخابات، وهذا لا يتم دون إشعار الأمريكيين بأن رئيسهم قد ورطهم في حروب جديدة في الشرق الأوسط. بمعنى آخر، دون استهداف الجيش الأمريكي في المنطقة، وبتحويل ذلك إلى عناوين تتصدر الإعلام الأمريكي.
الرد، إذا ما صدق نصر الله إذا، لم يبدأ بعد. إيران ترد أولا لحفظ ماء وجهها ومن أجل إرسال رسالة واضحة بأنها قادرة على إلحاق أذى كبير بالأمريكيين إذا ما أرادت، ومن ثم يأتي رد حلفاء إيران بالعمل على استهداف الوجود الأمريكي في العراق وسوريا تحديدا.
بهذا المعنى، الرد لم ينته بعد القصف الإيراني للقاعدة الأمريكية في العراق، لأن هذا هو الجزء العاجل من الرد والخاص بشكل مباشر بإيران، لكن الرد الاستراتيجي الذي سيلحق الأذى الفعلي بالأمريكيين هو في بداياته فقط.
(الأيام الفلسطينية)