قضايا وآراء

القارئ والناشر والكتاب

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

لعل أهم أوجه المعاناة التي تصطليها أيَّة أمة تبغي النهوض من كبوتها هي وجود الناشر المثقَّف الواعي، الذي يُسهِمُ في توفير ما تحتاجه أمته من معارف، لتتجاوز طور الطفولة العقلية إلى مرحلة النضج الإنساني. لكن هذا النوع من الناشرين صار للأسف وجودا شديد الندرة في اللغة العربية الشريفة، لأسباب كثيرة؛ أهمها على الإطلاق هو "تسليع" الكتاب في العصر الحديث؛ أي التعامُل معه بوصفه "سلعة" استهلاكيَّة، مثله في ذلك مثل الأحذية والألبِسة. ومن ثم، سُوِّي الكتاب بأدنى "الأشياء" قيمة وأعلاها في الثمن؛ لتحقيق أضخم ربح ممكن للمشتغلين بتجارته. وتلا ذلك تبلور علاقة مختلَّة بين الناشر والقارئ؛ علاقة قوامها الغبن والاستغلال، وقاعدتها التضليل وعدم الاحترام، علاقة بُغيتها الاستنزاف الاقتصادي. استنزاف مخاتل من طرفين!

والأصلُ أن تنبني علاقة الناشر بالقارئ على التوجيه والإرشاد المتبادَل، أو التواصي؛ إن شئنا استعمال اللفظ القرآني. فعلى الناشر أن يَدُلَّ القارئ على النافع من الكتب، التي قد يجهل القارئ "العادي" أهميتها؛ وذلك بنشره إيَّاها وإتاحتها للذهن العام. ودور القارئ أن يُذكِّر الناشر بالكتب المهمة المستحقة للنشر، التي قد يغفَل عنها، أو يجهل وجودها.

هذه العلاقة لا تحددها التصورات الإسلامية العامة، ومُجمل الرؤية الكونية التوحيدية فحسب؛ بل تتحكم فيها حزمة معرفيَّة وإجرائية صادرة عن تصور معين للمعرفة، وعلاقتها بالإنسان والمجتمع، وأثرها على حركتهما؛ قياما بالتكليف عروجا إلى الله. إنها علاقة تواصٍ بالحق ولو كان مُرّا، وتواصٍ بالصبر على مكابدة ذلك الحق في النفس وفي الكون. إنها علاقة بين مؤمنين، يسعون لتجاوز الخُسر الدنيوي الحتمي؛ كما يرسمها القرآن في سورة العصر.

هذا المحدد الرئيسي، الذي يمثله الإيمان؛ يُعتبر حجر الزاوية في تلك العلاقة، وفي مهمة الناشر في الحياة؛ ومن ثم يفترض به أن يزع الناشر عن إذاعة ما قد يُفسد الذوق العام، أو ينحدر بالأخلاق. ومن ثم، تصير مهمة الناشر مسؤوليَّة اجتماعية في المقام الأول، وقوامها وظيفة أخلاقيَّة- اجتماعيَّة.

ومحدد الإيمان هذا لا يعني انحدار مهنة الناشر إلى السخافة الوعظيَّة المباشِرة، ولا إلى التلقين الأيديولوجي المتهافِت؛ بل يعني التزامها بحدود ما أحلَّ الله وما حرَّم، وليس بوجهة المجتمع بالضرورة، التي قد تنتكِسُ عصورا متطاولة. ومن ثم، كان الناشر في هذا التصور رائدا، والرائد لا يكذب أهله؛ بل يحدوهم برّا لما فيه خيرهم. إذ الناشر، في التحليل النهائي؛ داعية لشيء محدد، سواء داعية إلى الهدى أو إلى الضلال، أو إلى خليط من هذا وذاك؛ كأكثر أهل الأرض.

كذا يقتضي المحدد الإيماني، ووظيفة الرائد؛ أن يُتقِن الناشر عمله مُستنفذا وسعه في إنتاج كُتبٍ يرتضي هو نفسه اقتناءها، إذ يؤمن بفائدتها ونفاستها، وجودتها شكلا ومضمونا؛ فلا يُغرِّر بالقارئ ويبيعه ما لا يرتضي هو نفسه بذل أزهد الأثمان في شرائه، إما لتفاهته وانحطاطه، أو لسوء إخراجه ورداءة تكوينه.

لكنّ هذه العلاقة لا تكتمل إلا بوعي حقيقي من القارئ، بمهمة الناشر المؤمن، الذي يتقي الله فيه. صحيح أن القارئ الجاد الناضج، الملتزم بقضايا مجتمعه يزداد فقرا (أو إفقارا)، إلا أن الأزمة الحقيقيَّة ليست في فقره المادي، بل هي في فقره الأخلاقي؛ الذي يُبيح له مطالعة نُسخ مُقرصنة؛ غير مُقدِّرٍ لما يتكبَّده الناشر الجاد في سبيل أداء رسالته.

ولعلَّ أهم تجليات هذا الفقر الأخلاقي (لجمهرةٍ من القراء) هي محاولتهم الحكم على "ثمن" الكتاب من خلال وزنه، نعم وزنه؛ أو حتى من خلال بلد المنشأ (فالكتاب اللبناني المنشأ عندهم أغلى ثمنا بالضرورة مما عداه، ولو كان رديئا في كل شيء)، لا من خلال قيمته المعرفيَّة، أو حجم الجهد المبذول في إخراجه. وهو في هذا يَظُن أنه يستخدم ذكاءه لمصلحته، ولا يعلم أنه بذلك يُحطم البقية الجادة الباقية من هذه الصناعة. إن سعر الكتاب يعتمد على عناصر كثيرة، لعلَّ منها سُرعة بيعه.

ولا يعلم هذا القارئ أن أكثر تكاليف الكتاب هامشيَّة عند الناشر الجاد، هي تكلفة الطباعة، مهما كانت فخمة؛ إذ إن تكلفة صناعة المحتوى، ترجمة وتحقيقا ومراجعة وتحريرا وتدقيقا؛ أعلى بكثير من تكلفة الطباعة، عند هذا النوع من الناشرين، بل إن الأصل أن المحتوى مخزن للقيمة لا يُقدَّر بثمن، على الأقل في ميزان أهل العلم. ومهما تقاضى الناشر فيه من ثمن؛ فإن قيمة الكتاب لا يعدِلها هذا الثمن أبدا، بل قد لا تنعقد عليها اليد أصلا لنفاسة المحتوى؛ مهما كان الثمن باهظا. إذ الثمن مجرَّد قيمة تبادليَّة تُتيح للقارئ الانتفاع بالعلم، وليس قيمة الكتاب.

ليظل المحتوى هو كل تكلفة الكتاب الحقيقيَّة عند الناشر الجاد، صاحب الرسالة. أما الناشرون المرتزقة، الذين لا يكترثون لمستوى المحتوى، وهؤلاء للأسف هم القاعدة؛ فالطباعة أهم تكاليفهم وأعظمها، ولذا؛ فهم يجيدون التعامل مع الجمهور الذي يُريد تثمين الكتاب بما يلائم صورته الذهنية عن تكلفة الطباعة ومستواها.

إن القارئ الذي يزن الكتاب وينظر في طباعته، ليحكم بهما على سعره؛ لا يختلف في شيء عن بائع "الروبابيكيا"، المخلَّفات القديمة؛ الذي يشتري ويبيع الكتب القديمة والنادرة والنفيسة بالوزن، وهو لا يفقه شيئا من قيمتها. ولا يجوز للقارئ الناضج الواعي أن ينحدِر إلى هذا الدرك.

إن الكتاب مخزنٌ لقيم الأمَّة، وما يحتويه هو أداة نهضتها وعزَّتها. ولا تُفلِحُ أمة تتعامل معه ومع ما يحتويه كما تتعامل مع الأحذية؛ تقيس قيمتها بلمعانها!

التعليقات (0)