حين نقول إن إيران في ذروة المأزق، فهذا لا
يعني بحال من الأحوال أن الأطراف الأخرى التي تواجهها مرتاحة وهادئة البال، لأن
لكل مأزقه أيضا؛ أعني القوى الفاعلة في المنطقة.
لكن ما جرى ويجري في العراق ولبنان يعكس ذروة
المأزق، وإن تفوقت عليه العقوبات الأمريكية، بصرف النظر عن المآلات التي سينتهي
إليها الحراك الاحتجاجي في البلدين، والذي يمثل احتجاجا ضد نفوذها، لا سيما في
العراق الذي يمثل الخاصرة الأهم بالنسبة إليها، والركن الأهم من أركان مشروع تمددها
في المنطقة، بل إن من غير العسير القول إن سيطرتها عليه بعد الاحتلال الأمريكي هو
الذي أصابها بغرور القوة ودفعها إلى المغامرات التالية في سوريا واليمن.
لا يعني ذلك أن لبنان لا يعني الكثير بالنسبة
إليها، فهو؛ وإن كان بلدا له طابعه الطائفي الخاص، فإن المعادلة التي تمت صناعتها
فيه تقوم على حكم تابعها (حزب الله) للبلد بقوة السلاح، من دون تحمّل تبعات الحكم.
أما الأهم من ذلك، فيتمثل في أن الحزب كان رأس الدعاية الإيرانية في المنطقة. وهو
لا غيره من منحها ذلك الحضور في أوساط غالبية الأمة (انقلب المشهد بعد تدخله في
سوريا)، وبالطبع عبر مواجهاته مع المشروع الصهيوني، كما منح الجاليات الشيعية قوة
معنوية كبيرة، وجعل أكثرها بمثابة التابع لإيران، حتى لو لم يتمكن بعضها من إعلان
ذلك بسبب ظروف كل بلد.
وفي حين كان النهج الطائفي الذي صاغته إيران في
العراق، ومن ثم المجزرة التي فتحت بابها في سوريا، وبعدها الانقلاب الغادر على
ثورة الشعب اليمني عبر الحوثي قد جعلها في حالة عداء رهيب مع غالبية الأمة،
باستثناءات جدّ محدودة لا تغير في واقع الحال، فإن التطور الجديد في العراق يبدو
مثيرا لجهة أن المحتجين عليها هم ممن كانت تصنفهم تابعين لها، فيما كان بعض شيعة
لبنان ينحازون للحراك الشعبي ويرفضون نهج نصر الله في التعاطي معه، ما يفتح بابا
لتحطيم الحاضنة الشعبية للحزب، وإن استغرق ذلك زمنا قد يطول، تبعا لسياسة الحشد
الطائفي التي يستخدمها.
اليوم تجد إيران نفسها في ذروة المأزق الذي
يبدأ بعقوبات خانقة تجد صعوبة في التعايش معها بسبب تطور أجهزة الرصد، خلافا للحال
مع العقوبات السابقة. وهي عقوبات سيكون من الصعب على الشعب الإيراني احتمالها
لسنوات طويلة، الأمر الذي قد يفجّر احتجاجات جديدة، سيحتاج لجمها عبر قوة
"الباسيج" الرهيبة إلى قدر هائل من الدماء، ومن ثم الانقسامات في الشارع.
يعتقد البعض أن التواجد الأمريكي الجديد (عالي الكلفة) في السعودية قد يحمي محطات النفط
ويكفي أن يطالب روحاني باستفتاء (لم يحدث منذ
الثورة) لحسم "المسائل الخلافية"، كما سمّاها، كي ندرك حجم المأزق الذي
يعانيه أمام شارع منحه الثقة، فيما لا يجد سبيلا لتقديم شيء ذي بال له؛ هو الذي لا
يملك سلطة المال، ولا السياسة الخارجية، فيما يدرك الجميع أن الأخيرة هي صانعة
المأزق الأول.
قبل أن نتساءل عما يمكن أن تفعله إيران في
مواجهة ذلك كله (العقوبات والفشل، ومحيط العداء الكبير)، ينبغي أن نشير إلى أن
الآخرين ليسوا مرتاحين، فحرب اليمن تستنزف التحالف، ويبدو أن الإمارات قد بدأت
تنسحب تدريجيا تبعا لتهديدات إيرانية صارمة بعد ضربة "أرامكو"، فيما
تبدو تركيا في مأزق أيضا بسبب تعقيدات الملف السوري وقضية اللاجئين، والوضع
الاقتصادي، بجانب مشاكل وانقسامات داخلية، وتآمر خارجي صهيوني لا يتوقف، مدعوما من
بعض العرب.
وفي حين يعتقد البعض أن التواجد الأمريكي
الجديد (عالي الكلفة) في السعودية قد يحمي محطات النفط، فإن موقف واشنطن المتسامح
مع ضربة "أرامكو" يشير إلى أنها لن ترد على إيران لأجل العرب، وعقوباتها
هي لأجل الكيان الصهيوني (برنامج الصواريخ والمواقف السياسية)، فيما تستثمر في
الصراع لجلب الأموال. أما الأهم، فإن إمكانيات التخريب التي تملكها إيران تتجاوز
الصواريخ والطائرات المسيّرة، مع أنها موجعة من الناحية العملية، كما أكدت الضربة
المشار إليها لـ"أرامكو".
الآن، ما هي خيارات إيران في التعامل مع هذا
الوضع، وهل يمكن القول إن استهدافها للسعودية أو تهديدها للإمارات سيحل معضلتها،
حتى لو نجحت في لجم احتجاجات العراق ولبنان؟
الجواب هو لا كبيرة، فحتى لو نجحت في تركيع
الشارع العراقي بقوة المليشيات، أو الشارع اللبناني بقوة حزب الله (السلاح
والحشود) فإن ذلك لن يحل معضلته ومعضلتها في لبنان، بل سيزيد التأزم أكثر فأكثر؛ أقله
من الناحية السياسية، ويجعل الانفجارات القادمة أكثر عنفا، كما أن شيئا لن يتغير
في الداخل الإيراني الذي قد ينفجر بدوره أيضا على وقع الانفجارات في المنطقة.
ولجمه بقوة "الباسيج" كما قلنا سيكون باهظ الكلفة.
أما توجيه ضربات للمحيط العربي، بخاصة في
السعودية (مباشرة أو من خلال الأدوات)، فلن يجدي نفعا، لأن الأمريكان لن يعنيهم
ذلك، بل ربما العكس هو الصحيح، إذ سيجري استثمار ذلك في استقطاب هؤلاء إلى جانب
الكيان الصهيوني أكثر فأكثر من أجل البحث عن الحماية، ولو من خلال أمريكا التي
بلغت فيها قوة اللوبي الصهيوني مداها الأكبر في التاريخ، من دون أن يستبعد أحد
الاستعانة المباشرة بهم، مقابل التطبيع ومواقف أخرى من القضية الفلسطينية.
أما فتح حرب مع الأمريكان والصهاينة، فسيكون
باهظ الكلفة، ومن المشكوك أن تتورط إيران فيه؛ ما لم تتدحرج الأمور نحو حرب غير
مخططة، أو يقتنع المحافظون بأن خيار الحرب هو الوحيد القادر على لجم الشارع في
الداخل، ودفعه لقبول الأوضاع الصعبة.
هذا الحريق الراهن، والذي يُراد استثماره صهيونيا في تصفية القضية، لن يحقق المراد
في ضوء ذلك، ولما كان الآخرون في مأزق أيضا،
فإن الخيار المتاح أمام إيران وأمامهم هو حوار إقليمي بين المحور العربي بحضور مصر
التي يجري دفع نظامها دفعا إلى الصهاينة رغم العلاقات المتينة، وذلك على خلفية
أزمة سد النهضة التي تهدد الأمن القومي، وبين تركيا وإيران، بحيث يمكن التوصل إلى
تفاهمات تستبعد التدخلات الخارجية وتحلّ المعضلات القائمة في مناطق الاشتباك وكل
ملفات العلاقة.
هذا الخيار لا يمكن أن يبدأ من طرف إيران من
دون اعتراف بفشل مشروع التمدد، وتقديم خيار التعايش، ومن دون مصالحات داخلية في
الدول العربية تمنحها القوة، ومن دون تغيير لسلم أولوياتها القائم حاليا (تتقدمه
حرب "الإسلام السياسي")، والذي يعتبر مطالب الإصلاح المشروع للشعوب ضربا
من الجنون الذي يستحق السحق.
نتشبث بالأمل في أن يحدث شيء من ذلك في ظل تعب
الجميع، لكننا واثقون من جهة أخرى، بأن هذا الحريق الراهن، والذي يُراد استثماره
صهيونيا في تصفية القضية، لن يحقق المراد، وستجد هذه الأمة سبيلا لمواجهته، تماما
كما واجه بعض رجال العراق الاحتلال الأمريكي، وأفشلوا مشروعه لإعادة تشكيل المنطقة
على مقاس الكيان الصهيوني (ينطبق هذا على مشروع التمدد الإيراني في حال أصرّت عليه).