هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا أحد يستطيع اليوم أن يقطع
بأنّ ما يعيشه العالم العربي بجناحيه، وتحديدا منذ ثورة تونس؛ وهو بين مدّ وجزر،
وشدّ وجذب، ربيع ثان ينبثق في عزّ الخريف، أو هو شعبويّة جارفة أو غضب عارم يؤجّجه
شباب لم يمتّع بشبابه؛ أو هو مؤامرة كما يزعم البعض. بل ربّما هو غضب تؤطّره وسائل
الاتصال الاجتماعيّة بطريقة رياضيّة “خوارزميّة” محكمة، يعرف القائمون عليها أو
“مهندسو الفوضى” كما يسمّيهم الإيطالي جيليانو دا أمبولي؛ كيف يستشرفون المستقبل،
وكأنّهم يختلسون سرّ رسالة مضمونة في دورة كأنّها دورة الخطّ الحلزوني أو لولبته،
وكيف يدفعون بهذا الشباب نحو صناديق الاقتراع؛ وقد صنعوا منهم ومنّا قوّة دافعة
قصوى، أو عقديّة وثوقيّة.
وما أكثر ما استعان السياسيّون بهؤلاء
“الحكماء” أو الـSpin Doctors، واتخذوا منهم وسطاء أشبه بوسطاء الوحي عند الإغريق “أوراكل” أو
الكهنة الذين يجيب الإله بوساطتهم عن سؤال حول ألغاز الغيب وأسراره. وهؤلاء في
زماننا معلّمو سبر آراء، ومفسّرون مهرة في المتاجرة برسالة ما وإذاعتها، بل
التصرّف في شيء ما قبل امتلاكه؛ أي توجيه الانتخابات نحو مرشّح بعينه، حتى ليصحّ
القول إنّنا ننتقل من “الشعب يريد” إلى “فيسبوك يريد” أو الويب يشاء ويطلب حيث
الجمهور عند هؤلاء أشبه بطريدة يعرفون كيف يضبطونها بدقّة متناهية. هذا كلّه وارد
جدّا، ولا علاقة له بالمؤامرة على النحو الذي يروّجه بعضنا، ففيسبوك اليوم آلة
موجّهة، وليس بحبل يترك على الغارب، أو هو فضاء سائح، يطلق فيه العنان لأهواء لا
كابح لها. ومن لطائف هذا الفعل “وجّه” في الفرنسيّة، أنّه يعني في الأصل “التوجّه
شرقا”، وإن كان يتّسع لمعان أخرى مثل قاد وسيّر وتوجّه شطر، أو ولّى وجهه شطر وما
إليها. بل يكاد فيسبوك يكون “براكاج” أي هو توجيه وتدوير وتصويب، وعطف إلى اليمين
أو اليسار أو الشعبويّة، أو الهجوم وإن لم يكن مسلّحا، كما هي حال لصوص النهار
وسرّاق الليل الذين يترصّدون عابري السبيل، في الظلام أو في زقاق أو ثنيّة. ولكنّ
فيسبوك لا يسلبنا مالا أو هاتفا، وإنّما إرادة ومشيئة، أو هو يوجّهها.
من هم هؤلاء مهندسو الفوضى كما يسمّيهم صاحبنا
الإيطالي، أو الانقلابات والتحوّلات والثورات؟ هل هم مستشارو الاتصالات الذين
ينوبون عن شخصيّة سياسيّة معلومة، في الحملات الانتخابيّة؛ وكلّ عملهم التأثير في
الرأي العامّ بوساطة تقنيات الاتصال، أو في هذا الجيل “جيل الصورة” من الشباب
خاصّة، بل في كثير أو قليل منّا نحن الكهول والشيوخ؛ وقد طلّق بعضنا الكتاب: أعزّ
مكانٍ في الدنى لوح غوغلٍ / وخير جليس في الأنام الهواتفُ؟
يحمل المصطلح “سبن دكتور”، وقد احتفظت به كما
هو؛ إذ لا أعرف له مقابلا في العربيّة، دلالة سلبية أكثر منها إيجابيّة. فهذا
“الدكتور” [خبير الاتصال] لا يتصرّف أخلاقيّا كما قد يقع في الظنّ، وإنّما بأسلوب
فيه ما فيه من مكر اللغة والسرد خاصّة؛ وهو يعرف كيف يقصّ علينا أحسن القصص،
ويزخرفها ويزيّنها لنا؛ بل يطرّزها ويغزلها غزلا. ومن دون خوض في تاريخ هذه المهنة
التي تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي، فإنّ الكلمة ذاعت وانتشرت في مستهلّ
الثمانينات في أمريكا، في الفترة الأولى من حكم رونالد ريغان، وما رافقه من جدل
وسجال. هي مهنة “بهلوان” حاذق يعرف كيف يلوي “الحقائق” أو المعلومات، ويخرجها في
الضوء الذي شاء والاتجاه الذي أراد؛ بوساطة شعارات وصور وفيديوهات مخصوصة، وبنوع
من التسويق أو الدعاية التجاريّة غير التقليديّة. فلا غرابة أن سمّاه البعض “صانع
الرؤساء” أو “المعلّم” الذي يعرف كيف يقول ببساطة، وبدون لفّ ودوران في الظاهر،
قولا جميلا عن مرشّحه؛ وكيف يصوغ رسالته ويصنع توقّعات الناخبين المفترضين، وجعلها
جذّابة شعبيّة. بل يعرف أساليب سياسة “استراتيجيا” تشويه الخصم أو المنافس، وتضليل
أنصاره. ونعرف وما بالعهد من قدم، الدور الذي نهض به بعض مستشاري جورج دبليو بوش
وتوني بلير، مثل كارل روف وألستير كامبل، في الحرب على العراق؛ وفي تسويقها
إعلاميّا بذرائع متهافتة عن امتلاك الرئيس العراقي الراحل أسلحة الدمار الشامل.
ولعلّها صورة أخرى من جوزف غوبلز في عهد الرايخ الثالث. بل نعرف حديثا ما قام به
البريطاني دومينيك كومنجس الذي وجّه الحملة المساندة لبريكست عام 2016، وقد صوّره
الصحافي باتريك ونتورـ وأنا أنقل عن الفرنسيّة ـ أبلغ تصوير: “قد يكون معتوها، وقد
يكون شرّيرا، وقد يكون نابها [آسرا]، وهو على الأرجح، شيء من هؤلاء الثلاثة في
الآن ذاته”. وهو الذي وزّع وأذاع بوساطة الإشهار الموجّه، الرسالة المضلّلة
المغلوط فيها التي تزعم أنّ بريكست سيسمح بتحصيل 380 مليون يورو في الأسبوع،
مستأنسا بفكتوريا وودوكك خبيرته الإعلاميّة. وثمّة أيضا ميلو اينوبولوس الإنكليزي
المولود لأمّ يهوديّة، والمرتبط بأوساط المتنفّذين البيض من الأمريكان؛ وقد ساهم
في فوز دونالد ترامب عام 2016، ويصف ستيف بانون اينوبولوس بـ”عدميّ فاسق [لا أخلاقيّ]”
في إشارة إلى مثليّته على ما يبدو.
اليوم نحن في زمان آخر، فخبراء علوم الاتصال
والتواصل هم الذين يمتلكون القدرة على استغلال الإمكانات المهولة التي يوفّرها
ويتوفّر عليها غوغل. وهذا ما أدركه مبكّرا القادة الشعبويّون الأوروبيّون الذين
استأجروا “مهندسي الانقلاب”، من أجل توجيه الغضب الشعبي لفائدتهم؛ وضدّ النخب
عامّة والاتّحاد الأوروبي خاصّة. وما كان لهم، من دونهم أن يتسنّموا سدّة الحكم،
كما يبيّن صاحبنا الفيلسوف الإيطالي. وهؤلاء المهندسون أو خبراء دراسة سوق الويب،
يعرفون حقّا كيف يستخدمون وسائل الاتصال الاجتماعيّة، لسبر آرائنا واختبار قوانا
وانفعالاتنا وردود أفعالنا، ومعرفة عاداتنا وأشيائنا المفضّلة، وطريقتنا في تصريف
الجاري من أمورنا. ومن ثمّة يتسنّى لهم أن يذيعوا رسائل من شأنها أن تطابق مشاغلنا
وخاصّة الأظهر منها أو تلك المشبوبة المتّقدة التي تقضّ مضاجعنا؛ وهي التي
نتقاسمها أكثر في لوحة الهاتف أو شاشة الحاسوب. وهذه هي الأنظمة المتّبعة عند
هؤلاء وهم يحاولون أن يجتذبوا أكثر ما يمكن من الفئات والمجموعات بما فيها الزمر
الصغيرة. بل هم ـ وهذه لعبتهم أو فكرتهم المفتاح ـ لا يتّجهون إلى الوسط أو ما
نتصوّر عادة أنّه المحور أو مركز الثقل وقاعدة التأثير؛ وإنّما يتّجهون بأنظارهم
إلى الأطراف المتباعدة بل المتناقضة، وجمعها وإضافتها من ثمّة إلى الأغلبيّة، من
دون علمهم أو إدراكهم. ولعلّ خير مثال لذلك حال الرئيس التونسي قيس سعيّد الذي
تجمّع في انتخابه في الدور الثاني، بعد أن خلا له الجوّ إلاّ من منافسه المتّهم
بتبييض المال والتهرّب الجبائي؛ “كلُّ لِسْن وأمّة” من أهل اليمين وأهل اليسار.
ومثال ذلك أيضا جارتنا الإيطاليّة حيث فاز الشعبويّون (حركة 5 نجوم) في انتخابات أذار/مارس
2018، بفضل هذا الظهور القويّ المفاجئ لشكل سياسي جديد تصنعه الإنترنت وشتّى
التقنيات الحديثة وخاصّة تلك التي يمتلكها دافيد كاساليجيو، أو ما يسمّى
“خوارزميّة غوغل” كما يقول دا أمبولي: “فليس لهذه الحركة رؤية ولا مشروع [برنامج]
أو أيّ مضمون إيجابيّ. وإنّما خوارزميّة بسيطة تكوّنت من أجل احتجاز الإجماع بفضل
ذوات مُطيعة”. والأمر أشبه بما يقوله المثل الفرنسي حرفيّا “نشدان مركزين اثنين في
دائرة واحدة” أي “طلب المحال” إذا نحن نقلناه إلى عربيّة سائغة.
وهذا “المحال” أو غير المعقول أو المخالف
للمعهود، هو الذي يتحقّق. والسؤال: كيف يحدث هذا؟ والجواب السائغ في تقديرنا هو الذي
نظفر به عند صاحبنا الإيطالي، فما يجري في هذا المشهد العالمي هو أشبه بكرنفال
حديث يتغذّى من عنصرين يتداخلان في تكوين مركّب: غضب شديد يضطرم في الأوساط
الشعبيّة التي تعاني من شظف العيش، وقسوة الظروف الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وآلة
أو “مكْنة” اتّصال رهيبة صارت الجهاز المفضّل لكلّ هؤلاء الذين يسعون إلى مضاعفة
بلبلة العالم أو فوضاه. يقول جوته: “الكرنفال حفل يصنعه الشعب لنفسه” وما يحدث في
أوروبا وأمريكا وأنحاء من العالم، أشبه بهذا الكرنفال حيث صعود الشعبويّات رقص
مطلق العنان، وسباق جنونيّ يطيح بالقواعد السياسيّة المضبوطة، ويستبدل بها
نقيضها. فما هو نقيصة في هؤلاء القادة الشعبويّين، يتحوّل عند ناخبيهم إلى خصلة
ومزيّة؛ وعدم خبرتهم بالشأن السياسي قرينة على أنّهم لا ينتمون إلى النخبة
الفاسدة، وعدم أهليّتهم شهادة لصدقهم وأصالتهم.
إنّ الصورة شيء مثلما هي حدث وجزء من حاضر
حقيقيّ، وليس افتراضيّا خالصا كما قد نتوهّم، وهي لا تقوم بذاتها وإنّما تحتاج إلى
مرسل ومرسل إليه وسياق؛ وفي هذا تكمن قدرة الإنترنت على فصل العارف عن المعروف
والمدرِك عن المدرَك. وربّما في هذا الحيّز تنشأ الشعبويّات، وتدار مشاعرنا
وعواطفنا.
عن صحيفة القدس
العربي اللندنية