هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
حين هاجم أفراد وُصفوا بأنهم
من أنصار «حركة أمل» و«حزب الله» جسر الرينغ في بيروت، كان بعضهم يهتف: «شيعة،
شيعة». بالنسبة إليهم، مجرد ذكر الطائفة صرخة حرب، وهذا امتداد لتقليد حربي قديم
جدا. ذاك أن الدفاع عن اسم الهوية هو الدفاع عن الهوية نفسها. لا بل مجرد ذكر
الاسم يملك طاقة تعبوية تلامس المشاعر وتتصل بمقدس جمعي واعٍ أو مستتر.
فاللغة الطائفية، خصوصا حين ترد في سياق حربي،
لا تقتصر وظيفتها على مخاطبة الآخر الطائفي. إنها تُصنع أيضا لمخاطبة الذات
الطائفية؛ فهي إذ تستحضرها، تؤكدها وتعززها، وتذكر بها مَن يهدده النسيان، فيوشك
أن ينشق عنها.
وأيام الثورة اللبنانية أيامٌ بدأ النسيان
فيها يهدد حربية الطوائف وعالمها القديم. لم تختفِ الطوائف بالطبع، وهي لا تختفي،
لكن كثيرين انزاحوا عنها أو شذبوا شفرتها الحادة، أي أن نسيانا ما شرع يتسلل
إليهم. هكذا بات ينبغي التذكير، وإرجاع مَن ضربه النسيان إلى «أصل» أول، إلى
قديمنا «غير القابل للتبديل»، قديمنا الذي نعرفه بدلا من الجديد الغامض الذي نتعرف
إليه. في هذا المعنى يُستَحضَر «الأصل» ولغته في تشبيح لغوي ومفهومي، سياسي
وإعلامي، واسع.
محطة «أو تي في» التلفزيونية العونية كانت الرائدة
في مضمار ردّنا إلى «الأصل» المفترض. في التحريض على إرجاع المستقبل إلى القمقم
الذي باشر الخروج منه. اشتغلت بكفاءة باهرة على استخراج الغرائز لتثبيتنا في
العالم القديم. لقد قدمت قراءة للثورة تأبى الاعتراف بأي جديد: التذكير دائم
بـ«زمن الميليشيات»، أي زمن الحرب الطائفية، عبر الاستخدام الذرائعي لإغلاق
الطرقات، والمبالغة في دور بعض عناصر «القوات اللبنانية» في ذلك. هناك أيضا ما هو
أخطر: تصوير استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة بوصفها «طعنة» لرئيس الجمهورية.
هنا يقيم ما يكفي من الإيحاءات ذات الأصول القديمة بأن رئيس الحكومة «السني» يتخلى
في الظروف الصعبة عن المسؤولية الوطنية. بعض الذين فهموا المغزى العوني، ردوا
بالمنطق نفسه: إنه استهداف للسُنة، لا سيما أن الاستقالة اقتصرت على الحريري، من
دون أن يستقيل رئيس الجمهورية «الماروني»، ورئيس مجلس النواب «الشيعي». ويُخشى إذا
نشأ وضع يحاصر طرابلس وعكار وحدهما، من غير أن تهبّ باقي المناطق لإنجادهما، أن
تحظى الرواية الطائفية بمزيد من التعزيز.
على أي حال، يُعمل بجد ونشاط على إبقاء صور
الماضي جاثمة على صدر الحاضر.
بعض هذا الماضي البعيد الذي يُراد تخليده
مداخلاتُ المؤسسات المذهبية دعما للسياسيين المنتمين إلى مذهبها. بيان مجلس
المطارنة الموارنة مَثل غير حصري. بعضه أيضا محاولات دفع الجيش إلى الصدام بالشعب،
رغم سلمية الثورة. لكن بعض هذا الماضي القريب التهويلُ بحضور السوريين في
المظاهرات، لا سيما في طرابلس، من قبل المحطة التلفزيونية إياها. إذا، ينبغي إيقاظ
العنصرية أيضا. وبالطبع هناك دائما اللازمة الأخلاقية: إن ساحات التجمهر أمكنة
موبوءة بالمخدرات والمثلية الجنسية والعلاقات الجنسية من كل نوع... هنا يبلغ
الانفصال عن «أصالتنا» مرتبة الذروة.
إلى ذلك، تجهد آلات كثيرة لإنعاش فهم للسياسة
يواكب تشكيل الحكومة الجديدة، حيث الانشغال بالكتل والحقائب، وتمثيل كل منها،
وباشتراطات واحدها على الآخر. أما المعنى الآخر للسياسة، بوصفها إشرافا من القاعدة
على اشتغال السلطة، ودينامية متحركة لتجديد النخب، وموقفا من البيئة، ومن
العنصرية، ومن المساواة الجندرية، ومن عقلية الوصاية الأبوية... فهذا ما لا يراود
أصحاب الذهنية المفلسة.
محطات التلفزيون في توقفها عن تغطية النشاط
الثوري، بعد استقالة الحكومة، كانت شريكة في هذا التغليب لمنطق في العمل السياسي
على سواه.
طريقة أخرى في الالتفاف، أولها تمويل السفارات،
وآخرها قتال إسرائيل. الأمران مزعومان، لكن زعمهما لا يلغي انتسابهما إلى زمن
تصدعت فيه الحركات المطلبية والاحتجاجية اللبنانية باسم «القضية القومية». إعادة
استدراج هذه القضية، عن براءة أو عن خبث، إعادة استدراج لذاك التصدع، لكن المسألة
أبعد وأخطر: فمن بعيد ضم آية الله خامنئي صوته إلى أصواتنا القديمة، فغرد: «أوصي
الحريصين على العراق ولبنان بأن يعالجوا أعمال الشغب وانعدام الأمن الذي تسببه في
بلادهم أميركا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربية، بأموال بعض الدول الرجعية».
هنا نُشبَك أيضا بالنزاعات الإقليمية التي نعرف (أقله منذ 1975) كيف عطلت كل تطلع
إلى التغيير.
تغريد السيد خامنئي، تيمنا بالبلابل، يكمله أن
عامليه في لبنان لا يغردون. إنهم، وبالذرائع نفسها، يصرخون: إلى الوراء در، وفي
أيديهم هراوات ثقيلة.
ويبقى تعبير لفتَ كثيرين: «الدول الرجعية»،
الذي يوحي بأن إيران دولة «تقدمية». هذا ما يعرف خامنئي أكثر من سواه أنه محض كلام
خرافي، لكنه بالتأكيد يعلن حسده للتقدمية الجديدة، السلمية والشبابية، التي أبدتها
الساحات العربية، فذاك القديم نفسه ينوي إعادة الاستحواذ على جملة من المعاني
والمصطلحات التي تتصدرها كلمة «ثورة». إنه الهجوم على الجديد الثوري من جهة القديم
«الثوري» هذه المرة.
عن صحيفة الشروق
الأوسط اللندنية