هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كشفت إعادة الانتخابات الإسرائيلية في الأسبوع الماضي عن التدافع الشديد داخل اليمين الإسرائيلي والتنافس على الهيمنة بين ائتلاف أحزاب المتدينين والمستوطنين بزعامة بنيامين نتنياهو من جهة وخصومهم في حزب الأزرق والأبيض العلماني بزعامة جنرالات الجيش.
توشك كفتا الميزان بين الطرفين أن تتعادلا تماماً، ما يعني أن إسرائيل قد تتجه نحو طريق مسدود للمرة الثانية بعد أن أخفقت الانتخابات التي أجريت في شهر إبريل/ نيسان في إفراز منتصر واضح. وقد بدأ يتردد كلام حول احتمال التوجه إلى إجراء انتخابات ثالثة، في خطوة غير مسبوقة.
ولكن كلما وصل المجتمع اليهودي الإسرائيلي إلى طريق مسدود وجد مجتمع المواطنين الفلسطينيين – الذي يشكل خمس سكان إسرائيل – نفسه يجر رغماً عنه إلى ساحة المعركة السياسية. وها هم المواطنون الفلسطينيون الذين يبلغ تعدادهم 1.8 مليون نسمة يجدون أنفسهم الآن في القلب من جدل يدور على مستوى البلاد قاطبة بين اليهود الإسرائيليين حول تهديد مفترض تشكله الأقلية الفلسطينية على الحياة السياسية في البلاد.
إقرار غانتز
وقد تعزز مثل هذا الشعور بعد أن أسفرت نهاية الأسبوع عن اتخاذ عشرة من أعضاء القائمة المشتركة الثلاثة عشر، والتي تمثل معظم الأقلية الفلسطينية، قراراً بتفضيل جانب على آخر في ما يعتبره اليهود الإسرائيليون نزاعاً قبلياً خاصاً بهم.
لقد ساندوا زعيم حزب الأزرق والأبيض بيني غانتز في محاولته الأولى لتشكيل ائتلاف حكومي برئاسته. ولقد بين زعيم هذه القائمة، أيمن عودة، أنهم اتخذوا القرار "لوضع نهاية لعهد نتنياهو".
على كل حال لم يكن ذلك قراراً سهلاً وخاصة أن غانتز هو الذي قاد الجيش في حربه المدمرة على قطاع غزة في عام 2014، معيداً إياه كما صرح هو بنفسه "إلى العصر الحجري".
سارع نتنياهو مباشرة إلى اغتنام الفرصة ووصم خصمه الرئيسي غانتز بموالاة "أولئك الذين يرفضون اعتبار إسرائيل دولة يهودية وديمقراطية ويشيدون بالإرهابيين". وطالب غانتز بالانضمام إليه في تشكيل حكومة وحدة موسعة تضم الأحزاب اليهودية.
يقال بأن رد غانتز على إقرار القائمة المشتركة له جاء بارداً.
"الخونة" السياسيون
لم يكن رد الفعل على قرار القائمة المشتركة مستغرباً. فعلى مدى سنوات، لم يفتأ المشرعون اليهود، وخاصة في معسكر اليمين، يشككون في شرعية ممارسة الأحزاب الفلسطينية لأي تأثير في السياسة الإسرائيلية، بل كان النواب الفلسطينيون داخل الكنيست الإسرائيلي يوصمون بشكل منتظم بالخونة بسبب انتقادهم لسياسات الحكومة.
إلا أن التحريض اتسعت دائرته بشكل خطير خلال السنوات الأربع الماضية إلى أن وصل ذروته خلال الحملة الانتخابية هذا الشهر. ولم يعد النقاش الآن مقتصراً على دور الأحزاب الفلسطينية بل امتد ليشمل مدى مشروعية مشاركة الجمهور الفلسطيني داخل إسرائيل في العملية الديمقراطية.
كان ذلك دوماً هو نص ما بين السطور في خطاب السياسيين اليهود، ومفاده أن الأحزاب الفلسطينية ليس لها دور في رسم السياسة في البلاد، وذلك أن هذه الأحزاب الفلسطينية إنما وصلت إلى البرلمان بأصوات الناخبين الفلسطينيين.
ولكن أثناء الحملات الانتخابية بدأ الزعماء الإسرائيليون يعبرون عن هذه الفكرة صراحة، وكان أجرأهم في ذلك نتنياهو.
سرقة الانتخابات
كشفت الحملة الانتخابية في الشهر الماضي عن مدى ترسخ هذه الفكرة في وعي الجمهور الإسرائيلي، حيث كان نتنياهو يؤكد مراراً وتكراراً بأن الناخبين الفلسطينيين في إسرائيل يسعون، كما قال، إلى "سرقة الانتخابات".
وكان نتنياهو قد زرع هذه الفكرة للمرة الأولى أثناء حملة الانتخابات التي جرت في عام 2015 حينما حذر الناخبين اليهود في نفس يوم الاقتراع من أن "العرب يتدفقون على مراكز الاقتراع زرافات ووحداناً".
وما لبث في انتخابات إبريل / نيسان أن طور الفكرة حينما قال إن تصويت المواطنين الفلسطينيين يرقى إلى نوع من الاحتيال الذي يتطلب الرصد والمراقبة، فانتهك قانون الانتخابات من خلال إرسال نشطاء الليكود المسلحين بأجهزة تصوير مثبتة على أبدانهم إلى ما يزيد عن ألف مركز اقتراع داخل مناطق المجتمع الفلسطيني.
ورداً على استفزار نتنياهو له بشأن التواطؤ مع الأحزاب الفلسطينية رفض غانتز رفضاً قاطعاً أي تعاون مع هذه الأحزاب. ولطالما كانت تلك هي مقاربة الأحزاب اليهودية الرئيسية في إسرائيل لعقود.
بل وحتى في صمته، وافق غانتز نتنياهو ضمنياً فيما يقوم به من شيطنة ليس فقط بحق الأحزاب الفلسطينية بل وبحق الناخبين الفلسطينيين، حيث لم يبذل جهداً في الإنكار على نتنياهو ولم يتحداه حينما زعم بأن الفلسطينيين "يسرقون" الانتخابات بمجرد ممارستهم لحق الاقتراع.
العرب والإبادة
لكن في هذه الانتخابات الحديثة جداً ذهب نتنياهو إلى أبعد من ذلك بكثير. فمن شدة حاجته إلى الفوز بأغلبية تتشكل من اليمين المتطرف لكي يتمكن من سن قانون يمنحه الحصانة من الإدانة بالفساد، وهي إدانة تكاد تكون وشيكة، حول رئيس الوزراء التهديد الذي يشكله الناخبون الفلسطينيون إلى فرصة يغتنمها لخدمة مصالحه السياسية بشكل عام وإلى تهديد وجودي يواجه جميع اليهود الإسرائيليين.
فقد نشر عبر حسابه في الفيسبوك رسالة تلقائية موجهة إلى أتباعه يزعم فيها أن "العرب" – بما في ذلك المواطنون الفلسطينيون – "يريدون إبادتنا جميعاً – نساء وأطفالاً ورجالاً". ويكون بذلك قد تجاوز حتى التحريض الذي كان يمارسه أفيغدور ليبرمان، وزير دفاعه السابق المعروف بكراهيته الشديدة للعرب، والذي يترأس الآن حزب إسرائيل بيتنا.
قبل أيام من تصريح "زرافات ووحداناً" الذي صدر عن نتنياهو في حملة انتخابات عام 2015، دعا ليبرمان إلى قطع رؤوس المواطنين الفلسطينيين – لكن فقط من أظهر منهم انعدام الولاء للدولة.
يتوقع من ليبرمان أن يصبح صانع الملوك في المفاوضات الحالية التي تبعت إجراء الانتخابات.
إقرار قضائي
من المؤشرات التي تدل على درجة التطبيع التي وصل إليها تحريض نتنياهو ضد المواطنين العرب ذلك الإقرار الذي ناله تحريضه أثناء الحملة الانتخابية من قبل واحد من أكبر القضاة في البلاد.
كان ذلك هنان ميلسر، القاضي في المحكمة العليا، والذي يشغل حالياً منصب رئيس اللجنة المركزية للانتخابات، والتي تشرف على الطريقة التي يتم من خلالها إجراء الانتخابات الإسرائيلية.
خلال الأيام الأخيرة من الحملة الانتخابية، ناشد حزب الليكود الذي يرأسه نتنياهو القاضي ميلسر بتوقيف نشاط جمعية خيرية صغيرة اسمها زازيم، والتي تتشكل في مجملها من يهود إسرائيليين ينتسبون إلى معسكر اليسار ويعربون عن قلقهم بشأن مصير ديمقراطية إسرائيل الهزيلة.
كثيراً ما يتم التغاضي عن حقيقة أنه عندما حذر نتنياهو في عام 2015 من أن "العرب يتوجهون نحو مراكز الاقتراع زرافات ووحداناً" كان في واقع الأمر يوجه أصابع اللوم نحو اليهود الإسرائيليين اليساريين، متهماً إياهم بنقل العرب بالحافلات إلى مراكز الاقتراع.
أما في هذه الانتخابات الأخيرة فقد قصد من "احتياله الانتخابي" الدمج بين هذين الموضوعين، حيث أراد أن يقول إن خصومه السياسيين، أي من يسمون باليساريين، كانوا يتواطأون مع أعداء إسرائيل – أي العرب الذي يتمنون "إبادتنا جميعاً".
البدو المحرومون من الحقوق
كان المثال العملي الوحيد الذي تمكن نتينياهو من الإشارة إليه لمثل هؤلاء اليساريين هو أولئك الذين يقومون على جمعية زازيم.
حاول متطوعو هذه الجمعية الخيرية في الماضي مساعدة عدة آلاف من المواطنين البدو الذين يعيشون في أماكن نائية جنوبي إسرائيل، في صحراء النقب، في الوصول إلى مراكز الاقتراع.
وكان الآلاف من البدو – وهم من أشد السكان فقراً في إسرائيل – قد حرمتهم السلطات الإسرائيلية قبل عقود من حقوقهم السياسية، كما وجهت لهم مختلف التهم في محاولة لتجريمهم تمهيداً لانتزع أراضيهم منهم.
لا يسمح للبدو الذين يعيشون داخل هذه القرى "غير المعترف بها" ببناء البيوت، بل يتوجب عليهم الاستمرار في العيش داخل بيوت من الصفيح، ويحرمون من الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء. ورغم أنهم مواطنون إلا أنه لم يسمح بفتح مراكز اقتراع لهم داخل قراهم تلك.
ولذلك لا مفر أمامهم حتى يصوتوا من أن يسافروا مسافات شاسعة إلى قرى معترف بها. وبذلك فإن الآلاف ممن لا يملكون القدرة على التنقل لا أمل لهم في التمكن من الاقتراع.
لا يوجد نقل للناخبين بالحافلات
ولذلك فإن جمعية زازيم تجمع التبرعات لكي تستأجر الحافلات يوم الاقتراع لنقل بها المواطنين البدو إلى مراكز الاقتراع البعيدة عنهم حتى يتمكنوا من ممارسة حقهم الديمقراطي.
خروجاً عن جادة الصواب، وافق القاضي ميلسر كلاً من نتنياهو وحزب الليكود في اعتبار أن نشاطات جمعية زازيم التي تساعد من خلالها البدو على الاقتراع لا تمثل حماية لحق ديمقراطي أساسي – كما صرح بذلك مدعي عام إسرائيل وإنما "نشاط سياسي" حزبي.
وأصر القاضي ميلسر على أنه إذا ما أرادت جمعية زازيم مساعدة البدو على التصويت، فإن عليها أولاً أن تسجل نفسها منظمة سياسية، الأمر الذي سيؤثر سلباً على نشاطاتها الأخرى في خدمة العدالة الاجتماعية وسيثقل كاهلها بالقيود التي ستفرض على جمعها للتبرعات. في نهاية المطاف اضطرت زازيم إلى التخلي عن برنامجها لنقل البدو إلى مراكز الاقتراع، وبذلك تلقت سردية نتنياهو حول "الاحتيال الانتخابي العربي" حقنة منشطة كبرى في الذراع.
التلاعب بفلسطين لحرمانها من حقها الديمقراطي
وكما هو واضح من الحكم الذي أصدره القاضي ميلسر، لم تأت من فراغ مزاعم نتنياهو بوجود احتيال انتخابي. بل تمثل تلك المزاعم الخطوات الأخيرة ضمن جهود ما لبث يبذلها المسؤولون اليهود من مختلف القطاعات السياسية لإخماد أي نفوذ سياسي قد يملكه أو يمارسه المواطنون العرب.
بدأ ذلك بعمليات الطرد الجماعي للفلسطينيين على أيدي الجيش الإسرائيلي في عام 1948 في سبيل إقامة دولة يهودية على أنقاض الوطن الفلسطيني. كان أفراد الأقلية الفلسطينية التي نجت من عمليات التطهير العرقي – فيما يعرف بالنكبة – هم أسلاف الأقلية الفلسطينية التي تعيش اليوم داخل إسرائيل.
كانت النكبة بشكل أساسي تمريناً في إعادة هندسة المشهد السياسي والاجتماعي للمنطقة – أي أنها كانت بمثابة عبث على نطاق واسع قُصد منه حرمان الفلسطينيين من حقوقهم السياسية.
بعد أن طرد الفلسطينيون خارج الحدود الجديدة بدأت حملات تشجيع اليهود وحثهم على الهجرة حتى يشكلوا تجمعاً سكانياً بديلاً. وبذلك تحول الفلسطينيون بين عشية وضحاها من أغلبية ساحقة إلى أقلية ضئيلة.
وكان ذلك السبب في تمكن إسرائيل من السماح لمواطنيها الفلسطينيين غير المرحب بهم بالمشاركة في الانتخابات، وذلك على الرغم من إخضاعهم لحكم عسكري جائر خلال العقدين الأولين من عمر دولة إسرائيل.
في الواقع العملي، لم تكن لأصواتهم أي قيمة، مما مهد الطريق أمام إسرائيل لسرقة أراضيهم ولكي تفرض عليهم التمييز المنظم في كل جانب من جوانب الحياة تقريباً. ومازالت الأغلبية العظمى من الفلسطينيين تعيش حتى هذا اليوم في تجمعات منفصلة، أشبه ما تكون بالغيتوات، ويتلقى أبناؤهم التعليم في منظومة دراسية منفصلة.
التصويت كتزيين للواجهة
في الحقيقة، خلال العقود الثلاثة الأولى من عمر إسرائيل كان التصويت بالنسبة للمواطنين الفلسطينيين بلا معنى على الإطلاق. إذ كان العرب يقترعون لصالح "قوائم عربية" خاصة من المشرعين تمنحهم إياها الأحزاب اليهودية الصهيونية الرئيسية.
ثم بدأت إسرائيل تخفف القيود المفروضة عليهم بالتدريج، ولكن قبل ما يقرب من خمسة عشر عاماً وصف لي أسعد غنيم، الأكاديمي الفلسطيني البارز، مشاركة مجتمعه الفلسطيني في الانتخابات البرلمانية باعتبارها لا تزيد عن كونها شيئاً رمزياً أو مجرد تزيين للواجهة.
وهكذا بالضبط كان يراها السياسيون اليهود في إسرائيل. فقد كانوا سعداء نسبياً برؤية الأقلية الفلسطينية تصوت في الانتخابات، ولكن فقط طالما أن الأحزاب التي انتخبوها لم يكن لها دور لتلعبه داخل البرلمان الذي تهيمن عليه الأحزاب اليهودية.
"خيانة" رابين في أوسلو
ولكن بمجرد أن دخلت إسرائيل عملية أوسلو في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بدأ دور الأحزاب الفلسطينية يتغير.
حينها أصبح إسحق رابين أول زعيم إسرائيلي يتواصل دبلوماسياً مع القيادة الفلسطينية في الخارج، وكان مفترضاً على نطاق واسع أن تلك المحادثات ستؤدي إلى إقامة دولة فلسطينية في المناطق المحتلة.
بدا واضحاً أن تلك العملية لم تحظ سوى بحماسة ضئيلة وسط أغلبية اليهود الإسرائيليين. وحينما تعرض رابين لضغوط شديدة من الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا للمضي قدماً في مسار أوسلو، وجد نفسه مضطراً للاعتماد على الأحزاب العربية لتعزيز حكومة الأقلية التي كان يرأسها حتى يتمكن من سن التشريعات التي كان يحتاجها لكي يُمضي اتفاقية أوسلو.
أعرب اليمين عن سخطه تجاه فكرة أن تتنازل إسرائيل للفلسطينيين عما يفترض أنها أراض وعدها بها الرب وكذلك تجاه الاعتماد على "العرب" – الأقلية الفلسطينية في إسرائيل – لتمرير مثل هذه التشريعات. تلك الخيانة، كما يراها اليمين – بما في ذلك نتنياهو – هي التي نجم عنها في عام 1995 اغتيال رابين.
التقاعس عن المشاركة في الاقتراع
طوال عقد التسعينيات والعقد الذي تلاه كان كثير من الإسرائيليين يعربون عن تخوفهم من "تدخل" الأحزاب الفلسطينية في عملية أوسلو التي كانوا يعتقدون بأن اليهود وحدهم من حقهم اتخاذ القرارات بشأنها.
والمفارقة هنا أن القلق من نفوذ المواطنين الفلسطينيين تعمق خلال العقد الماضي – في الوقت الذي لم يعد فيه أحد في إسرائيل يعبأ بعملية السلام أو المحادثات مع القيادة الفلسطينية في المناطق المحتلة.
وفي مفارقة أخرى، اشتدت المخاوف في أوساط الجمهور اليهودي في نفس الوقت الذي تراجع فيه إقبال الفلسطينيين على صناديق الاقتراع ليصل إلى أدنى مستوياته على الإطلاق. ففي شهر إبريل / نيسان، شارك أقل من نصف المجتمع العربي في الاقتراع مقارنة بثلثي المجتمع اليهودي في إسرائيل.
وهذا التراجع السريع في مستوى مشاركة المواطنين الفلسطينيين في الاقتراع يعكس بشكل أساسي الإحساس لديهم بأنه لم يعد ثمة يسار إسرائيلي بإمكان العرب أن يتحالفوا معه. هذا ناهيك عن سلسلة الخطوات التي اتخذتها حكومة نتنياهو سعياً منها لإقصاء الناخبين الفلسطينيين ودفعهم للعزوف عن المشاركة.
مشرعون يواجهون الطرد
كانت الخطوة الأولى هي قانون العتبة لعام 2014 والذي رفع العتبة الانتخابية إلى نقطة لم يعد عندها بإمكان أي من الأحزاب الفلسطينية الأربعة تخطيها، فلم يكن من تلك الأحزاب إلا أن اندمجت في قائمة مشتركة واحدة، فأصبحوا بذلك، من حيث لم يحتسب أحد، ثالث أكبر حزب داخل البرلمان ما بعد انتخابات عام 2015.
رداً على ذلك، أجاز البرلمان قانون الطرد لعام 2016، والذي يمكن ثلثي الأغلبية (اليهودية) من طرد أي مشرع لا تروق لهم سياساته – فأضحى ذلك القانون بمثابة سيف مسلط على رقبة كل عضو فلسطيني من أعضاء البرلمان.
لكن ثبت أنه حتى هذه المبادرات لم تكن كافية، حيث أصبحت الحاجة ملحة، وبشكل متزايد، لدى نتنياهو واليمين المتطرف إلى إنهاء وجود الأحزاب العربية – وحتى وجود الناخبين الذين يصوتون لها.
في هذه الأثناء بدأ الجمهور اليهودي العلماني في إسرائيل يضجر من حكم نتنياهو والأحزاب الدينية، ذلك الحكم الذي استمر لعقد من الزمن. ينتسب معظم هذا الجمهور إلى معسكر اليمين، وهو جمهور مناهض للفلسطينيين، ولكنه لم يعد يحتمل فساد نتنياهو واعتماده على الأحزاب الدينية المتطرفة وأحزاب المستوطنين.
لقد باتوا يشتاقون إلى تلك الأيام التي كانت إسرائيل فيها تنتهك حقوق الفلسطينيين بهدوء وتسرق أراضيهم بلا كثير من الاستعراض والمباهاة.
سياسة يهودية مشلولة
نظراً لأنها تمثل أقلية من الجمهور اليهودي، فإن الأحزاب العلمانية غير قادرة وحدها على كسب السلطة. فكل ما تمكنوا من تحقيقه في شهر إبريل / نيسان – وقد يتكرر ذلك ثانية – هو دمج أصواتهم مع أصوات الجمهور الفلسطيني لقطع الطريق على نتنياهو واليمين المتدين والحيلولة دون أن يتمكنوا من تشكيل حكومة.
ولهذا السبب تعيش إسرائيل اليوم في مأزق السبيل الوحيد للخروج منه فيما يبدو يتمثل في ما يسمى حكومة وحدة وطنية بين جنرالات الجيش العلمانيين في حزب الأزرق والأبيض وحزب الليكود الذي يترأسه نتنياهو. إلا أن الجنرالات قد يصرون على أن ثمن مثل هذا الائتلاف لابد أن يكون التخلص من نتنياهو.
إذن، بينما لازال الناخبون الفلسطينيون عاجزين عن التأثير في السياسة الإسرائيلية بشكل مباشر أو التأثير فيها خدمة لمصالحهم – ناهيك عن أن يتمكنوا من الدفع باتجاه السلام – إلا أن بإمكانهم لعب دور في تعميق الانقسامات الحاصلة داخل السياسة القبلية الإسرائيلية، وبإمكانهم أن يساهموا في شل هذه السياسة.
ولهذا السبب يحتاج نتنياهو ومعه اليمين المتطرف إلى تشخيص حق الأقلية الفلسطينية في الاقتراع على أنه يشكل تهديداً لصحة وسلامة المنظومة السياسية اليهودية في إسرائيل، وبناء عليه الإصرار على الحاجة إلى إزالة هذا التهديد قبل "أن يتمكن العرب من إبادتنا جميعاً".
هناك خطر إضافي محدق بالأغلبية اليهودية في إسرائيل في هذه الفترة من الانغلاق السياسي كما يتضح من قرار القائمة المشتركة هذا الأسبوع إقرار غانتز.
بعد سنوات عديدة من تراجع نسبة المشاركة في الاقتراع بين الناخبين الفلسطينيين الذين لم يعودوا مخدوعين بالسياسات القومية الإسرائيلية، حصل العكس هذا الأسبوع، حيث شارك ما يقرب من ستين بالمائة من الناخبين الفلسطينيين في الاقتراع فيما يبدو أنه رد فعل على التحريض المتعاظم الذي يمارسه نتنياهو.
وكلما أمعن نتنياهو واليمين المتطرف في إظهار الخوف من الصوت الانتخابي الفلسطيني كلما شعر الفلسطينيون أن أصواتهم بات لها قيمة أكبر ولو على الأقل لوضع حد لإسراف القومية اليهودية المتطرفة. تظهر استطلاعات الرأي أن المواطنين الفلسطينيين يريدون أن يكون لمشرعيهم نفوذ أكبر داخل النظام السياسي ويهتمون برؤيتهم يعملون مع الأحزاب الصهيونية.
رعشات تسري في النخاع
تنبه عودة، رئيس القائمة المشتركة، إلى ذلك، وبدلاً من أن ينأى بنفسه عن السياسة الإسرائيلية كما فعل أسلافه من قبل أشار إلى استعداده لتغيير الأسلوب والمضي قدماً بالتوصية بغانتز.
إضافة إلى ذلك، فيما لو تشكلت حكومة وحدة وشارك فيها الأزرق والأبيض والليكود، كما يفضل كثير من السياسيين اليهود في إسرائيل، فسوف تكتسب القائمة المشتركة نوعاً آخر من القوة لأنها ستصبح بحكم الأمر الواقع أكبر حزب سياسي معارض.
قال عودة إنه سيصبح عن طيب خاطر زعيم المعارضة، وسيكون بذلك أول مواطن فلسطيني يحتل هذا الموقع، الأمر الذي سيجعل من حقه الاستماع من رئيس الوزراء ومن قائد الجيش إلى تقارير أمنية، وسيمنحه المجال للقاء زعماء الدول الذين يزورون البلاد، ويوفر له منصة برلمانية للحديث مباشرة بعد رئيس الوزراء.
مجرد التفكير في ذلك يجعل الرعشات تسري في نخاع كثير من اليهود الإسرائيليين.
ولذلك فقد جرت نقاشات حول كيفية ضمان ألا يتحقق مثل ذلك الأمر، وكما لاحظ بطرافة المعلق جدعون ليفي هذا الأسبوع: "إذا لم يكن باستطاعة عودة تزعم المعارضة، أوليس من الأفضل منع العرب أصلاً من التواجد داخل الكنيست؟ لأنهم إذا ظلوا دوماً موضع ارتياب واتهام بالخيانة، فمن الأحرى ألا يكون لهم مكان داخل المجلس التشريعي".
مزيد من الشيطنة؟
يبدو أن عودة والقائمة المشتركة سيكون بإمكانهم عن غير قصد كسب نفوذ سياسي بالغ الأهمية بغض النظر عن النتيجة التي ستفضي إليها مفاوضات تشكيل الائتلاف. فإما أن تساعد القائمة المشتركة غانتز على خلع نتنياهو والمستوطنين أو تصبح هي المعارضة في مواجهة حكومة وحدة يشكلها اليمين اليهودي العريض.
كل واحدة من هذه التطورات كفيلة بإلهاب مشاعر العداء في أوساط اليهود الإسرائيليين ضد الأقلية الفلسطينية. وذلك أن المشاركة الفعالة للمواطنين الفلسطينيين في رسم معالم الديمقراطية الإسرائيلية سوف تفضح التناقضات الكامنة في القلب من الدولة "اليهودية والديمقراطية".
لقد بلغ نتنياهو في تحريضه ضد الأقلية الفلسطينية في إسرائيل إلى مستويات جديدة، ولكن قد يكون من المفارقة أن يؤدي خروجه من السياسة الإسرائيلية إلى تدشين مرحلة يتعرض فيها المواطنون الفلسطينيون في البلاد إلى درجة أكبر من الشيطنة.