هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا تزال المنطقة العربية تشهد مدّا ثوريّا متصاعدا ومتجدّدا، كإرهاصٍ لتحوّلاتٍ كبرى، بعد الحالات الثورية للرّبيع العربي المثير منذ 2011م، الذي كتب تاريخا جديدا لهذه الأمّة، رغم التحدّيات والعقبات والخيبات والانتكاسات، وأنه من السّابق لأوانه الحكم النّهائي عليه.
وقد تتفق هذه الثورات الشعبية في أهدافها، وعلى رأسها: إسقاط الأنظمة الفاشلة والفاسدة، وقد تتناغم في أسبابها، التي تُعتبر وَقُودا مستمرّا لها، ولكنّها قد تختلف في استراتيجياتها في التغيير، وفي أدوات هذا التغيير وأساليبه ووسائله، ومن ثَمّ قد تختلف في نتائجه ومآلاته، وتتفاوت في تحقيق أهدافه الكلّية والأساسية، التي تتجاوز مجرد تحقيق هدفه المرحلي وهو سقوط رموز النّظام، إلى تحقيق هدفه الاستراتيجي المتمثّل في الحرّية الحقيقية، وفي الديمقراطية الفعلية التي تجسّد الإرادة الشعبية، وتترجمها في بناءٍ ديمقراطي بمؤسّساتٍ شرعيةٍ منتخبة وسيّدة، تحقّق التنمية وتصنع النّهضة وتبْنِي الحضارة.
ويتوقّف نجاحُ أيِّ ثورةٍ شعبية على:
أوّلا- المنهج المتّبع في عملية التغيير: وهو إمّا منهج سلميّ أو عُنْفيّ، وأنّ المنهج المثالي في ذلك هو: الإصرار على السّلمية، وهي أقوى سلاح لمواجهة الأنظمة التسلّطية، لتعريتها شعبيّا وأخلاقيّا، بعيا عن التحريض والاحتكاك بين مكوّناتا، وبعيدا عن المربّع الذي تتقنه هذه الأنظمة، وهو: العنف أو عسكرة الثورة، والتي لا تصبّ إلا في صالح أعداء الحرّية والديمقراطية وحدَهم.
ثانيّا – الفواعل المؤثّرة فيها: وهي مَن تتحكّم في الإطار الزّماني الذي يستغرق عملية تحقيق أهداف الحرَاك الشعبي، وكذا حجم التضحيات والكُلفة البشرية والمادية الكلّية له.
ومن هذه الفواعل المؤثّرة في هذه الثورات الشّعبية، التي لها بصماتُها في نجاحها أو فشلها:
1 / سلوك النّظام السّياسي: وبقدر ما يكون إقصائيّا واستعلائيّا وفاسدا وظالما لخصومه، بقدر ما يحقّق الإجماع من القوى الثّورية ضدّه، والعكس صحيح، وهو ما يؤثّر في البُعد الأفقي والعمودي للثورة الشعبية، وفي الامتداد المكاني والزّماني لها.
2 / مؤسّسات الدّولة: التي يُفترض فيها أنّها ملتزمةٌ بمهامّها، والتي تُعتبر مِلْكا للشّعب وخادمة له، وليست أدواتٍ حاميةً للسّلطة ومدافعة عنها، لأنّ السّلطة مؤقّتة ومُتداول عليها، أمّا المؤسّسات فهي دائمة وباقية، مع الانتباه إلى خطورة تحزيبها، وعلى رأسها الأجهزة الأمنية والمؤسّسة الدّينية والقضاء والإدارة والإعلام، وأنّ موقفها وطبيعة سلوكها تجاه الثّورة الشّعبية محدِّدٌ رئيسيٌّ في نجاح هذه الثّورات أو فشلها، لأنّ جزءا معتبرا ممّا يُسمى بالقوّة الثالثة المرجِّحة وهي الكتلة الشّعبية المحايدة، كثيرا ما تخاف من المواجهة أو تنخدع ببعض الإنجازات أو تنبطح لهذه المؤسّسات، بما تملكه من قوّة التأثير والتخذير.
ولطالما تمّ اختطاف مؤسّسات الدولة وتوظيفها لصالح الأنظمة الفاشلة ضدّ إرادات الشّعوب، بما يعني مواجهة الأمّة بالدّولة، ويتّضح فيما بعد بأنّها النّواة الصّلبة والقوّة الخفيّة للثّورة المضادّة، وهي امتدادٌ للنّظام المتهالك، الذي غيّر في النّهاية جِلْدته فقط.
3 / المعارضة السّياسية: ومدى ثوريتها الفعلية، وقوّتها النّضالية، وحاضنتها الشّعبية، وتعبئتها الجماهيرية، ومظلّتها الجماعية، وأدواتها السّلمية المبدِعة، التي قد تصل إلى العقيدة بأنّ كلَّ ما دون السّلاح فهو سلمي، كالإضرابات والاحتجاجات والمسيرات والاعتصامات والعصيان المدني، وكذا نهج المواجهة مع النظام السّياسي، وحسن إدارتها للمعركة السّياسية والإعلامية، والخيارات ذات الأبعاد الشّعبية، ونجاحها في توحُّد القوى الثورية على فقه أولويات المرحلة في المنهج التغييري وفي الأهداف الاستراتيجية الكبرى، دون الغرَق في الأهداف الحزبية أو الإيديولوجية أو الجهوية أو الفئوية.
4/ موقف الكتلة الشّعبية غير المتحزّبة وغير المؤدلجة: وهي القوّة الثالثة في معادلة التدافع بين السّلطة والمعارضة، وهي التي تخضع لمعامل استمالتها، إمّا من طرف النّظام السّياسي عبر سياسة شراء السّلم الاجتماعي وإضفاء الشرعية الشعبية على معركته الوجودية، وإمّا من طرف المعارضة في قدرتها على تعبئتها لصالح الصفّ الثوري، وإقناعها بالإصلاح والتغيير، وأنه في مصلحتها قبل مصلحة غيرها.
5 / العامل الخارجي: وهو من الفواعل الرئيسية التأثيرية القويّة في نجاح هذه الثورات الشّعبية أو فشلها، ويتوقّف ذلك على موقفه ومدى دعمه للنظام السّياسي أو السّكوت عنه، أو موقفه من الثّورة الشّعبية وقناعته بالضّرورة التغييرية على يدها.
وتعتبر هذه الحاضنة الدولية من المعلوم من الدّنيا بالضّرورة في ظلّ هذه البيئة العالمية: متداخلة المصالح، ومتشابكة العلاقات، ومتصادمة الإرادات، التي يجب أن تُؤخذ بعين الاعتبار في أيِّ معادلة للتغيير، وهي من التحدّيات الحقيقية لأيِّ فعل ثوري.
وقد ارتبط مفهوم التمكين للثورات الشّعبية بوصول القوى الثورية إلى السّلطة، وهو محدِّدٌ في الحكم على نجاحها أو فشلها، مع أنّ مجرد الفوز في الانتخابات لا يعني بالضّرورة التمكين الحقيقي للمشروع الثوري، وأنه لا توجد لحدّ الآن ثورةٌ شعبية قد اكتملت أركان نجاحاتها، وأنّ من أسباب تعثّرها: عامل الزّمن الذي لا يشتغل لصالحها، لاشتغال قوى الثّورة المضادّة على إطالة المراحل الانتقالية بمعارك التلهية وحالات الاستنزاف، لأنّ الفعل الثوري الشّعبي قد لا يكون له النَّفَس الطويل، وهناك مَن يستعجل ثمراتِ الحرَاك قبل أوانها، مع قدرة الأنظمة على تغيير قشرتها السياسية، وعجز القوى الثورية الصّاعدة والأحزاب السياسية على حالة الاندماج والتناغم فيما بينها في المطالب والأهداف. أو الوقوع في المصيدة الخطيرة، وهي من الأخطاء القاتلة للثورات الشعبية، وهي السباق المحموم على المكاسب الانتخابية قبل الأوان، فتكون الثورة الانتخابية مُجهِضة للثورة الشعبية، لعدم التّمكُّن من شروط الانتقال الديمقراطي الحقيقي، ومنها: التوافقات العابرة للإيديولوجيات، والإصلاحات العابرة للحزبيات، والضمانات العابرة للانتماءات قبل أيِّ انتخابات، وأنّ هناك فُروقًا جوهرية بين منطق القيام بالثّورة ومنطق بناء الدولة، إذْ من السّهل إسقاط الأنظمة، ولكنْ من الصّعب إقامة البدائل عنها.
وبالرّغم من زخم تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم، فإنه لم تتمّ الاستفادة من نظام العدالة الانتقالية بأهدافها الحقيقية، وهي: مكاشفة الرّأي العام، وسيادة القانون على الجميع، والمحاسبة الفعلية، واستعادة أموال الشّعب المنهوبة والمهرّبة، وردّ المظالم المؤكدة، وإعادة الاعتبار لأصحابه، وتحقيق الإصلاح الشّامل والجذري، وأنّ الفشل في ذلك يُعتبر من أكبر الانتكاسات التي يُعاد استنساخها في عديد الدول، وهو ما يطرح دائما أسئلة الاستعجال في تحقيق الأهداف، مع أنّ عمر التغيير على مستوى الشعوب والدول أطول بكثير من عمر الأفراد والتنظيمات، وأنّ استحقاقات النّصر وشروطه تتطلّب إطارا زمنيّا يتجاوز العواطف العابرة للفعل الثوري، وأنّ لكلِّ ثورةٍ ثورةٌ مضادّة، وثمنٌ باهظ لا بدّ من دفعه على مستوى الأعصاب والزّمن والكُلفة المادّية والبشرية، وأنه مهما بعُدت الشُّقَّة على انتصار هذه الثورات فهي لا تختلف عن مثيلاتها في الدُّول التي نجحت في الأخير في مسارات الانتقال الديمقراطي في العالم.
عن صحيفة الشروق الجزائرية