عن جدل زيارة القدس

من المعلوم من السياسة بالضرورة أن زيارة المؤمنين بديانة ما للأماكن المقدسة بالنسبة لهم يعد تأكيدا لحق خاص لهم بها وضغطاً سياسيا على من يسيطر عليها إذا كان من أتباع ديانة أو طائفة أخرى، وفي التاريخ البعيد والقريب نجد هذه بدهية لا تتغير بتغير الظروف السياسية؛ فقد شكل الحج إلى القدس مبررا للحملات الصليبية على المنطقة، وشكّل "الحنين إلى الهيكل" عاملا هاما في حشد يهود العالم لتنفيذ المشروع الصهيوني، وشكّلت "حماية مرقد السيدة زينب" مبررا لاستجلاب المليشيات الشيعية من مختلف دول العالم، وفي حال منع مواطني أي بلد من القدوم فإن ذلك يعد منعا لهم من حقوق دينية ومبررا لخلق أزمات سياسية، وانظر مثلا إلى تعامل إيران مع موضوع الحج.

كما أن الزيارة تعني تعزيز الصلة بين المؤمنين وبين المكان، ومن الأمثلة الواضحة على ذلك الأثر الذي يجده أي مسلم في نفسه حينما يزور الحرم المكي أو المسجد النبوي، ويشهد الكثيرون على الأثر الذي تتركه زيارة القدس في نقوسهم؛ خصوصا وهو تحت نير الاحتلال، ويكفي هنا الإشارة إلى أن القائد القسامي عبدالله البرغوثي كتب في سيرته أن السبب الذي دفعه لاتخاذ قرار العمل العسكري ضد الاحتلال هو مشاجرته مع جنود الاحتلال عند مدخل الأقصى.

المشهد في الأقصى

ومنذ سنوات يتم تهويد القدس وتقسيم الأقصى، ولا تتمكن جهود المرابطين من منع هذا المسار، وتزداد الإشكالية بفعل إجراءات الاحتلال التي تستهدف البنية التنظيمية للرباط، وعلى رأسها حظر الحركة الإسلامية في الداخل المحتل وإغلاق مؤسساتها التي كانت تنظم عملية الرباط.

وبفعل الموقف السياسي الذي يجرّم الزيارة ويعتبرها تطبيعا والفتوى التي تحرمها، يمتنع أصحاب الالتزام الديني والقومي من زيارة القدس وفلسطين، فيما يزورها ويطبع مع الاحتلال من لا يعبأون بهذا الموقف وهذه الفتوى، وبفعل طول البعد بين المسلمين والأقصى ضعفت الرابطة بينهم وبينه إلى حد يجعلهم لا يتفاعلون تقريبا مع انتهاكات الاحتلال له رغم أنها تتصاعد بشكل غير مسبوق.

وعلى الرغم من تغير الظروف وتبين عدم القدرة على حماية الأقصى في ظل الرهانات السابقة؛ إذ لم ينتفض المسلمون بفعل بعدهم عن الأقصى، ولم يتمكن الفلسطينيون وحدهم من سداد الثغرة، يمتنع تيار المقاومة عن تغيير موقفه من الزيارة لأن هذا الموقف اكتسب قدسية بفعل استخدام الفتوى الدينية لتكريسه، ولأن هذا الموضوع كان أحد ملفات المواجهة مع تيار التسوية لعقود، كما أن هناك بنى مؤسسية مرتبطة بهذا الموقف.

زيارة القدس ليست تطبيعا

ومن المفيد في هذا السياق التمييز بين الثابت والمتغير في القضية الفلسطينية؛ إذ إن الثابت هو الحفاظ على المقدسات الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني وعدم الاعتراف بشرعية الاحتلال، أما ما سوى ذلك فهو وسائل لتحقيق هذا الهدف، وتغيير الوسائل أمر طبيعي، ويصبح واجبا حينما يظهر قصور الوسائل السابقة، ورفض التطبيع وسيلة هامة ومطلوبة دائما، إلا أن تعريفها يجب أن يخضع لمراجعة بما لا يعيق العمل للدفاع عن الحقوق. إذ لن تستطيع الأمة أن تقاوم الاحتلال دون أن تتعامل معه، خصوصا مع عدم القدرة على تجييش الجيوش لقتاله انطلاقا من أي دولة محاذية. 

فدولة الاحتلال مسيطرة على القدس بصفتها قوة احتلال، وهذا أمر واقع يجب التعامل معه بهدف تغييره، ونيل التأشيرة من سفارات دولة الاحتلال لا يعد تطبيعا للعلاقة معها؛ إذ إن الاقتراب بهدف الاشتباك ليس اعترافا بالعدو أو تطبيعا للعلاقة معه، فلا اشتباك بلا اقتراب. وهذا الأمر لا يختلف كثيرا عن مرور الفلسطينيين من الضفة إلى القدس عبر الحواجز الإسرائيلية.

ماذا عن استفادة الاحتلال من الزيارة؟

في كل أمور السياسة يكون لأطراف الصراع أو التوافق مكاسب ومخاسر يتداخل بعضها ببعض، وفي أي مواجهة ينال كل طرف ضرر ما، إلا أن التحدي دائما هو تقليل استفادة العدو وزيادة مخاسره، وليس الابتعاد عنه وترك الغنيمة له مخافة أن تناله بعض المكاسب إن تم الاقتراب بهدف الاشتباك.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن البعد السياسي هو الأهم، ويليه البعد الأمني/الجهادي، أما البعد الاقتصادي فيأتي ثالثا، ومعلوم أنه في كل الجوانب ستتداخل المكاسب والمخاسر، إلا أن الخسارة الأكبر للقدس والأقصى تحصل إذا استمر الوضع الحالي الذي يتقدم فيه مشروع التهويد والتقسيم بثبات.

لماذا الآن؟ ولم التماهي مع الاحتلال وتيار التسوية؟

لأن المراهنات السابقة التي قام عليها موقف منع الزيارة فشلت، أو أصبحت قاصرة عن تحقيق الهدف بفعل تغير الظروف، ولأن موقف العدو والسلطة والعديد من الأنظمة العربية على حاله منذ سنوات، ولا ينبغي أن يكون هذا مانعا لنا من مراجعة موقفنا، خصوصا ونحن نشهد تقدم العدو في القدس وعدم نجاح كل تكتيكات المقاومة لوقفه.

كما أن ما يريده الاحتلال يختلف عن ما نريده؛ فالمطلوب تخصيص الموقف بحيث يشجع الزيارة للرباط وليس لأسباب أخرى، مع وجود برامج تثقيفية من خلال أدلاء محليين مناهضين للاحتلال، ومراعاة أن تخدم الإقامة والتسوق المقدسيين أكثر من الاحتلال.

وينبغي الاستمرار في رفض زيارة الشخصيات الاعتبارية التي تمثل دولا ومؤسسات عربية أو إسلامية.

ومعلوم أن الزيارة والرباط وحده لن يحقق الحماية المطلوبة للأقصى، ولكن من المفترض أن يكون ذلك جزءا من إستراتيجية متكاملة لمقاومة الاحتلال.

تصور مستقبلي للزيارة

إن مردود الزيارة إيجابا أو سلبا متعلق بإدارة العملية ودوافعها، وحاليا يدير الاحتلال العملية، ويتساوق معه بعض الفلسطينيين والعرب مما يجعل أثرها سلبيا في ضوء غياب تيار المقاومة، ولكن تشجيع المسلمين على الذهاب بهدف الرباط ومواجهة الاعتداءات على الأقصى من الممكن أن يقلب الطاولة على رؤوس أصحابها.

فمن ناحية لدى الأمة الإسلامية الكثيرين من المستعدين للدفاع عن الأقصى بدمائهم، ولكن الفتوى تمنعهم من ذلك، ومن الناحية الأخرى لا يتمكن المرابطون من إيقاف مسار تقسيم الأقصى بفعل النقص في عاملي الكم والنوع، فالمطلوب أعداد أكبر من مختلف جنسيات العالم.

وبذلك فإن المطلوب هو فتح باب الرباط لمسلمي العالم، بما يوفر مدخلا لاستثمار طاقات واستعدادات كبيرة للجهاد بالنفس لم تتمكن المقاومة من الاستفادة منها طوال عقود ماضية، ومادة الصراع الأساسية هي الناس المتحمسون المستعدون للتضحية في سبيل القضية ولا يعرف العدو عنهم ما يمكنه من منعهم من الوصول إليه، وهذه المادة محاصرة ومكشوفة تقريبا في فلسطين.

ويفترض أن يكون الهدف من مشروع رباط مسلمي العالم تحقيق جذر كلمة رفض التطبيع؛ وهو منع جعل دولة الاحتلال طبيعية في المنطقة، وذلك من خلال توسيع دائرة الاشتباك مع الاحتلال لتشمل المسلمين جميعا بدل اقتصارها على الفلسطينيين؛ فلو تواجد في الأقصى عدد المتواجدين في المسجد الحرام أو نصفهم لما تمكن الاحتلال من تقسيم المسجد الأقصى.

وحينما يعود المرابطون إلى بلدانهم يحيون قضية الأقصى في محيطهم بما أحدثته الزيارة من أثر في نفوسهم، وفي حال حصول مواجهات أعنف قد يكون هناك شهداء من العديد من البلدان، وهو ما سيخلق قضية رأي عام وأزمات أشد لدولة الاحتلال، ومن الأمثلة على ذلك نموذج الشهيد الأردني سعيد العمرو الذي أصبحت قضيته قضية رأي عام في الأردن بعد أن حاول طعن جندي إسرائيلي في الأقصى.

ولو خرجت من الأقصى في كل شهر جنازة أحد المرابطين من مسلمي العالم إلى بلدانهم لكان ذلك كفيلا بخلق أزمات سياسية للاحتلال تفوق مكاسبه من زيارة المسلمين له، ولكان ذلك كفيلا بإبقاء قضية الأقصى حاضرة، بصفته رمزا للصراع مع الاحتلال.