هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يُقتحم الأقصى فتعلو الأصوات لتطالب بـ"إعادة النظر" بفتوى زيارة القدس، تُهدم البيوت بالعشرات فيُدعى إلى إعادة النظر في فتوى الزيارة، يُمنع الاعتكاف في رمضان فيدعى إلى إعادة النظر في فتوى الزيارة، يُعتدى على المرابطين والمرابطات ويُبعدون عن الأقصى فتعلو الدعوة ذاتها من جديد. من يراقب هذه الجدلية وتفاعلها يوشك أن يظن أن زيارة القدس هي المسألة المركزية، وأن من يرفضونها هم حجر العثرة أمام نصرة القدس والأقصى.
فكأن "منع" زيارة القدس هو الذي منع الشعوب العربية من أن تعتصم حتى ولو لعشر دقائق تضامناً مع المرابطين في الأقصى يوم الأضحى كي يشعروا أن أحداً ما في هذه الأمة معهم، وكأن "منع" الزيارة هو الذي منع مئات ملايين العرب والمسلمين من احتضان عائلة شهيد، ومن دعم صاحب منزلٍ مهدوم، أو الوقوف بالدعم القانوني والنفسي إلى جانب طفلٍ يختطف ظلماً عدواناً من بيته، وكأن "منع" الزيارة هو الذي يمنع صورة الأقصى من الظهور على أي شاشة عربية -رغم تزاحم الشاشات وكثرتها- في اقتحامه المهين والمذل في يوم 28 رمضان... ترى هل نحن نسأل السؤال الصحيح من الأساس؟
هل نطرح السؤال الصحيح؟
يتعارف العقلاء على أن طرح الأسئلة الصحيحة هو أول الطريق للوصول إلى إجابات، ونحن كلما جدّ حادث في القدس نطرح سؤال الزيارة، ثم نخوض نقاشاً طويلاً حول جدوى منعها أو السماح بها، ولا يلبث النقاش أن يذوي والمستجدات تتوالى فينشغل الذهن بحدث جديد في شرقنا المدلهم بالخطوب، ثم تعود القدس إلى الواجهة لبُرهة، نعود لنُثير نفس النقاش وتعلو فيه الأصوات، ثم لا تلبث أن تتكرر نفس الدائرة المغلقة في دوامة مضى عليها 7 سنوات متواصلة.
في الحقيقة إن انشغالنا المستمر بسؤال الزيارة باعتباره "السؤال المركزي" كلما فُتح جرح القدس وأقصاها هو ضمانة حقيقية لبقائنا في مربع العجز، وضمانة لاستحالة الخروج بإجاباتٍ ذات معنى، فنحن بهذا السؤال حولنا الأداة إلى استراتيجية، ثم تمترسنا حول تلك الأداة في سؤال ثنائي حدّي بين النعم واللا، يتكرر إلى ما لانهاية، وأية ضمانة للعبثية أفضل من هذه!
كيف جُررنا للمربع العبثي؟
وهنا يصبح مهماً أن نراجع معاً كيف أصبح سؤال الزيارة بشكله العبثي هذا السؤال المركزي في مسألة القدس، وبحث بسيط يوضح أن طرحه المستجد جاء في الجلسة الافتتاحية لمؤتمر القدس في الدوحة في 26-2-2016 حين طرحه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في الجلسة الافتتاحية باعتباره "المبادرة" السياسية المركزية المطلوبة، فرد عليه مباشرة وفي الجلسة ذاتها الشيخ يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين رافضاً لها ومجدداً الفتوى السابقة بمنع زيارتها تحت الاحتلال.
من تلك اللحظة بات طرح سؤال الزيارة ومحاولة حملِ الناس عليها أجندة مركزية للسلطة الفلسطينية والدولة الأردنية في موقف مشترك بينهما، فكُلف محمود الهباش وزير أوقاف السلطة حينها بزيارة المفتين عبر العالم الإسلامي للتبشير بها طوال عامي 2012 و2013 فزار الكويت وعُمان ومصر والبحرين والأردن وتركيا وإندونيسيا، وتولت الدولة الأردنية تسهيل دخول مفتين ومشايخ وسياسيين إلى الأقصى خلال الفترة ذاتها.
بينما يدعو الطرفان للزيارة؛ كانت السلطة الفلسطينية تواصل تهميش القدس في ميزانياتها بإملاء دولي، فلا تخصص لها أكثر من 1% من الميزانية، وتواصل سياسة نقل المراكز والمؤسسات إلى العاصمة البديلة –رام الله- وتواصل التعامل الأمني مع القدس وتفريغها من القيادات السياسية لصالح قيادات ذات مرجعية أمنية، وتسعى بكل الأشكال لوأد الحراك الشعبي في القدس ومنع نشأة حراك متضامن معه في الضفة الغربية، ناهيك عن التنسيق الأمني الموجه ضد المقاومة.
في الوقت عينه كانت الدولة الأردنية قد فرغت للتو من سن قانون جمعيات عينه على إنهاء صلة الجمعيات الأردنية بأي دور في فلسطين المحتلة، فربط تلقي الدعم من الخارج بقرار مجلس الوزراء، وتحويله كذلك، فانتهى جسم الجمعيات الأردني الذي كان يكفل آلاف أبناء الشهداء والأسرى والجرحى إلى شكلٍ احتفالي بالكاد يوجد فيه من يتمكن من الفعل، وكانت تتحضر في الوقت عينه لتعديل قانون الإرهاب ليعتبر المقاومة الفلسطينية ودعمها شكلاً من أشكال الإرهاب الذي يحال "مرتكبه" إلى محكمة أمن الدولة.
ترى كيف يمكن التوفيق بين خنق المقاومة وحصارها، وخنق العمل الشعبي المساند للقدس وحصاره؛ وبين الحديث عن نصرة القدس وتعزيز صمود أهلها؟ كان لا بد من مخرج، وكان جرُّنا جميعاً إلى مربع العبث هو هذا المخرج، وقد أسهم محور الاعتلال العربي برمته في جرنا إلى هناك، وباتت زوبعة سؤال الزيارة تخفي عورة العجز البادية.
إن السؤال الصحيح كان وما يزال: ما هو الواجب تجاه القدس، وكيف ننصر أهلها بشكلٍ عملي وفعال، وحرفُ وعينا عن سؤال ماذا وكيف إلى سؤال هل بإجابة تنتهي بنعم أو لا هو فخٌ منصوب لا بد أن نبادر فوراً إلى الخروج منه.
زيارة القدس وسؤال الجدوى:
أما وقد بات واضحاً أن الزيارة ليست إلا أداة من أدواتٍ قد تطرح إجابة على سؤال الواجب وكيفية أدائه، فإن تقييم الأدوات إنما يكون بجدواها، فهل زيارة القدس فعلاً مجدية كأداة لدعم القدس؟ وهل هي الأداة المركزية حتى تستحق أن يبقى الجدل حولها دائراً؟
أمام ذلك نطرح سؤالين:
-من الطبيعي للزيارة إن تبناها قطاع عريض من العرب والمسلمين أن تُحوّل القدس إلى مدينة "سياحة دينية" على غرار مكة والمدينة، اقتصادها مرتبط بالفنادق والمطاعم وخدمة الزوار؛ فهل حصل أن تبنّت حركة تحرر نموذج اقتصاد السياحة ونجحت في التحرر؟! ألا يتطلب اقتصاد السياحة الاستقرار؟ فكيف سينظر "المقدسيون الصامدون" إلى أية عملية مقاومة أو حتى اعتصامٍ شعبي إذا ما باتوا متعلقين بأثمان الغرف والوجبات والبقشيش؟ هل من سابقة تاريخية واحدة لشعب تحرر باقتصاد السياحة؟ أم أننا ندعو إلى ما يهمّش سؤال التحرر ويجعل تحرير الأقصى مرفوضاً وملفوظاً؟ وما دام هذا هو المآل فنحمد الله أن قطاعاً عريضاً من المقدسيين مسلّحون بوعيهم وتجربتهم ضد أطروحتنا السياحية العظيمة.
-هل كان عزل الفلسطينيين داخل فلسطين المحتلة عن القدس والأقصى نتيجة زلزال أو كارثة طبيعية؛ أم نتيجة سياسة منهجية صهيونية حاصرت وعزلت قطاع غزة منذ عام 2000، وعزلت الضفة الغربية بالجدار منذ عام 2002، وضربت حركة الرباط في الداخل المحتل وأرهبت أبناءها منذ عام 2010، وخنقت البلدة القديمة والأقصى بالحواجز وكاميرات المراقبة وعمليات القتل بدم بارد على أبوابها علها تصد الناس عنها؟ إذا كان عزل القدس والأقصى هدفاً مركزياً لمستعمرٍ مدجج بالسلاح استخدم لتحقيقه الحصار والعزل والقتل والسجن والحواجز وجدران الاسمنت، فهل سنقهره بالتأشيرات التي يصدرها هو؟ كيف سنفعل ذلك يا ترى، سنرهقه بطلباتٍ أكثر من قدرته على الاحتمال؟ أي عقلٍ ومنطقٍ يمكن أن يقبل أن الزائر الذي يدخل بطلب مسبق من السفارة سيُترك ليحقق ما يُمنع صاحب الأرض من تحقيقه بالقتل والسجن والإبعاد والحصار؟ إن الرومانسية التي تحملها مقولة "ترك أخيك السجين تحت رحمة السجان" تسطح كل هذه الأسئلة الموضوعية والواقعية وتتقافز عنها.
وما دام قد بات جلياً أن سؤال الزيارة قد بات طريقنا إلى مربع العجز، وأن الزيارة كأداة دعمٍ ساقطة من حيث الجدوى الموضوعية، فلا بد أن ننتقل لطرح الأسئلة الصحيحة، وما دام المقدسيون يتصدون للاقتحام والتقسيم بالحشد الجماهيري فلا بد أن لا نتركهم وحدهم، وأن نخرج معهم ولأجلهم متى ما نفروا للدفاع عن الأقصى، وما دام أبناء فلسطين يفدون الأقصى بدمائهم فواجبنا أن نحتضن عائلات الشهداء وأبنائهم، وما دامت معركة الأقصى على خطورتها مغيبة قسراً عن معظم الشاشات فلا بد أن تحضر إلى الوعي بكل أدوات الإعلام البديل، وما دام المقدسيون مخنوقون بالغرامات والضرائب فلا بد من دعمهم مادياً بكل الوسائل والأدوات الفردية والمؤسسية.
إن الطريق واضح وإن كانت تفاصيله تتطلب التفكير والسعي وبذل الوسع، لكن سؤال الزيارة يلقي ظلالاً قاتمةً تحجب هذا الطريق، وتزيد المقدسيين وحدةً إذ يخوضون المعارك ويدفعون الأثمان ثم إذا ما التفتوا إلينا وجدونا نتصايح حول فتوى الزيارة، حتى إذا ما خفتت أصواتنا عادوا ليخوضوا معركتهم وحدهم من جديد.