هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
رغم طرد تنظيم "الدولة الإسلامية" من مناطق سيطرته الحضرية المدنية في العراق وسوريا، وخسارة آخر جيب مكاني في بلدة الباغوز في محافظة دير الزور في 23 آذار/ مارس 2018 على يد قوات سوريا الديموقراطية بدعم من قوات التحالف الدولي بقيادة واشنطن، فإن التنظيم لا يزال يتمتع بقدرات قتالية وتمويلية وإعلامية كبيرة، فقد كشفت الوقائع الميدانية عن سرعة تكيّف التنظيم مع التطورت الميدانية، وتمتعه بمرونة شديدة بالتحول من نهج المركزية إلى حالة اللامركزية، حيث تمكن من إجراء إعادة هيكلة تنظيمية على الصعيد العسكري والأمني والإداري والشرعي والإعر لامي، فمع نهاية المشروع السياسي للتنظيم كدولة "خلافة"، عاد إلى حالة "المنظمة"، ورجع إلى الاعتماد على تكتيكاته القتالية التقليدية بالاعتماد على نهج الاستنزاف وحرب العصابات.
على مدى الأشهر الثلاثة الأخيرة تكاثرت التقارير التي تصدر من
جهات رسمية وغير رسمية حول عودة مرتقبة لتنظيم "الدولة الإسلامية"، فقد
أشار تقرير حديث صدر عن وزارة الدفاع الأمريكية إلى أن تنظيم "الدولة"
أعاد ترتيب صفوفه ليظهر من جديد في سوريا، مستغلا الانسحاب الأمريكي، وأكد التقرير
على أن التنظيم عزز من قدراته المسلحة في العراق، حيث قال مفتّش عام في وزارة
الدفاع الأمريكيّة (البنتاغون) في تقرير صدر في 6 آب/ أغسطس الماضي: إنّ تنظيم
الدولة الإسلامية "يُعاود الظهور" في سوريا مع سحب الولايات المتحدة
قوّاتها من البلاد، مؤكدا أنه "عزّز قدراته" في العراق، وأشار التقرير
إلى أنه على الرغم من خسارة التنظيم "خلافته" على الأرض، إلا أنّ تنظيم "الدولة" عزّز قدراته المسلحة
في العراق واستأنف أنشطته في سوريا خلال الربع الحالي" من العام، وأضاف أنّ
التنظيم استطاع "إعادة توحيد صفوفه ودعم عمليّات في كلا البلدين، وذلك لأسباب
منها أنّ القوّات المحلّية "غير قادرة على مواصلة شنّ عمليّات طويلة الأمد،
أو القيام بعمليّات عدّة في وقتٍ واحد، أو الحفاظ على الأراضي التي استعادتها.
عقب تقرير وزارة الدفاع الأمريكية
بيوم، قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في 7 آب/ أغسطس الماضي، إن
تنظيم "الدولة" يمتلك مبالغ تصل إلى 300 مليون دولار، بقيت معه بعد زوال
"الخلافة" في العراق وسوريا، وذكر غوتيريش في تقرير قدمه إلى مجلس الأمن
حول التهديد الذي يمثله التنظيم، أن انخفاض وتيرة الهجمات التي يشنها "قد
يكون مؤقتا"، وأعرب عن ثقته بقدرة التنظيم على توجيه هذه الأموال لدعم أعمال
إرهابية داخل العراق وسوريا وخارجهما عبر شركات غير رسمية لتحويل الأموال، وتمتعه
بالاكتفاء الذاتي المالي عبر شبكة من المؤيدين والجماعات التابعة له في أماكن أخرى
بالشرق الأوسط وإفريقيا وآسيا.
يؤكد محللون وخبراء عسكريون على أن
القضاء على "الخلافة" لا يعني أن خطر "المنظمة" قد زال،
فالإعلان عن هزيمة التنظيم، ينطوي على خلط بين هزيمة المشروع السياسي للتنظيم
كدولة خلافة تفرض سيطرتها على مساحات جغرافية واسعة وتقيم حكامتها على عدة ملايين
من السكان، وهو ما تحقق بصورة واضحة، وبين حالة المنظمة التي تعمل بطريقة مختلفة،
وبهذا لم يهزم تنظيم "الدولة الإسلامية" كمنظمة، فحسب تقرير معهد "دراسات
الحرب" في واشنطن، بعنوان "عودة داعش الثانية: تقييم تمرد داعش
المقبل" الصادر نهاية يونيو/ حزيران 2019، الذي أعده جينيفر كافاريلا
وبراندون والاس وجيسون تشو، فإن تنظيم
"الدولة" اليوم أقوى مما كان عليه إبان حقبة "دولة العراق
الإسلامية" التي ورثت "القاعدة في بلاد الرافدين"، فعندما انسحبت
الولايات المتحدة الأمريكية من العراق عام 2011 كان لدى التنظيم في العراق حوالي
700 إلى 1000 مقاتل، بينما بلغ عدد مقاتلي تنظيم "الدولة" وسوريا في آب/
أغسطس 2018 وفقًا لتقديرات وكالة الاستخبارات العسكرية 30،000 مقاتل في العراق،
وقد استطاع تنظيم "الدولة" تأسيس جيش كبير من المجموعة الصغيرة التي
تركت عام 2011 مكنته من استعادة الفلوجة والموصل ومدن أخرى في العراق والسيطرة على
معظم شرق سوريا خلال ثلاث سنوات فقط، وسوف يتعافى تنظيم "الدولة" بشكل
أسرع بكثير مما حدث مع العودة الأولى، وسيصل إلى مستوى أكثر خطورة من القوة في
ولادته الثانية.
إن التقارير الرسمية وغير الرسمية
التي حول عودة مرتقبة لتنظيم "الدولة" تعزز قناعة باتت راسخة لدى
الخبراء والباحثين ومراكز الأبحاث والأجهزة الاستخبارية الدولية أن هزيمة تنظيم
"الدولة الإسلامية" بصورة نهائية لا تتمتع بالواقعية والمصداقية، وتستند
التوقعات بعودة تنظيم "الدولة" إلى وقائع تاريخية وحقائق ميدانية، فعودة
التنظيم للعمل كمنظمة سرية ساهم بفعالية بالحفاظ على هياكله التنظيمية وفاعليته
الإيديولوجية ورسالته الدعائية ومصادره التمويلية، وتحولت استراتيجيته إلى نهج
الاستنزاف ومنطف حرب العصابات، بالاعتماد على مجاميع صغيرة تنتشر في العراق وسوريا
عبر مساحات غير مأهولة وتجمعات سكنية معزولة في مناطق الفراغ الأمني وفي عمق
الأرياف والفضاءات الصحراوية النائية، إضافة إلى التموضع كخلايا نائمة داخل المدن.
رغم القدرات الذاتية وإرادة القتال العالية لدى
التنظيم، إلا أن الظروف الموضوعية تلعب دورا كبيرا في عودة التنظيم، ففي كافة
البلدان التي شهدت صعود تنظيم الدولة وتراجعه عموما، وفي العراق وسوريا خصوصا، لا
يزال الاستقرار هشا، إذ لم يحدث تحول حقيقي في المجالات السياسة والاقتصادية
والاجتماعية، فضلا عن تنامي حالة التنافس والصراع الدولي والإقليمي، وتراجع الحديث
عن الحلول السياسية وبرامج التنمية وإعادة الإعمار، ومحاربة الفساد، وتنامت
الصراعات الطائفية، وتعمقت السلطوبة، وتجذرت الأسباب العميقة الباعثة على العنف
والتمرد، ففي سوريا على سبيل المثال، فإن الأوضاع شديدة البؤس على الصعيد السياسي
والاقتصادي والاجتماعي، ولا تزال مناطق شمال غرب وشمال شرق سوريا منفتحة على
احتمالات الفوضى، وفي حال مغامرة روسيا إلى جانب النظام باجتياح إدلب فإن الحالة
الجهادية قد تخرج عن السيطرة، الأمر الذي سيحدث في حال اجتياح تركيا لمناطق شرق
الفرات لفرض المنطقة الآمنة.
لقد شكل ظهور البغدادي بشريط مصور
إلى جانب ثلاثة من مساعديه في 29 نيسان/ أبريل 2019 بعنوان "في ضيافة أمير
المؤمنين"، تدشينا لعودة مرتقبة لتنظيم "الدولة بعد إكتمال عملية إعادة
الهيكلة التنظيمية العسكرية والأمنية والإدارية والمالية والشرعية والإعلامية،
وإقرار الخطط العسكرية لاستئناف "حرب استنزاف"، وقد استعرض "تقارير
شهرية" عن فروع التنظيم وعددها 12 ولاية، وكان البغدادي قد أقر البغدادي
عملية إعادة الهيكلة في خطاب سابق في 28 أيلول/ سبتمبر 2017 بعنوان "وكفى
بربك هاديا ونصيرا"، وأكد عليها في كلمة لاحقة بعنوان "وبشر
الصابرين" في 22 آب/ أغسطس 2018.
منذ أن تحول تنظيم الدولة إلى العمل
كمنظمة اعتمد على خطط استراتيجية بناء على تكتيكات "حرب الاستنزاف"،
ورغم أنه شن أكثر من 3 آلاف هحوم صغير ومتوسط في العراق وسوريا عام 2018 عن طريق
الكمائن والعبوات والقنص وعمليات الاغتيال، إلا أته لا يزال مقتصدا في تكتيكاته
المفضلة ممثلة بالعمليات الانتحارية والانغماسية المتنوعة والمركبة، وقد اعتمد منذ
31 آيار/ مايو 2019 على تكتيكات جديدة في إطار "حرب الاستنزاف" تقوم على
مبدأ أطلق عليه "إسقاط المدن مؤقتا كأسلوب عمل للمجاهدين"، وقد نشرت
صحيفة "النبأ" التابعه له، سلسلة من أربعة أجزاء لشرح التكتيك الجديد،
حيث دعا التنظيم مقاتليه إلى تجنب الاشتباكات المباشرة مع العدو، وشرحت السلسلة
كيف يستطيع المقاتلون من خلال حرب العصابات إضعاف العدو دون تكبد خسائر، وقالت إن
من بين أهداف هجمات الكر والفر احتجاز الرهائن وتحرير الأسرى والاستيلاء على أموال
العدو.
إن مقارنة ولادة تنظيم
"الدولة" الأولى بالولادة الثانية، تظهر قدرة التنظيم على الانبعاث من
جديد، فقد شهد تنظيم "دولة العراق الإسلامية" بداية عام 2009، تراجعا واضحا، بعد اعتماد الولايات المتحدة على استرا تيجية الجنرال بترايوس بتدفق القوات
وزخم الصحوات، وتقلصت أعداد التنظيم إلى قرابة 700 إلى 1000 مقاتل، في مناطق
معزولة ونائية، ومع حلول العام 2010 أصدر تنظيم "دولة العراق الإسلامية"
مراجعة تقويمية وتقديراً للموقف، وحددت رؤيته المستقبلية في العراق مع اقتراب موعد
انسحاب القوات الأمريكية، فقد أصدر وثيقة استراتيجية بعنوان "خطة إستراتيجية
لتعزيز الموقف السياسي لدولة العراق الإسلامية"، وعقب خروج القوات الأمريكية
من العراق عام 2011، ، أعلن عن بدء خطة "هدم الأسوار" في تموز/يوليو
2012، ثم أعلن عن بدء خطة جديدة بعنوان "حصاد الأجناد"، في 29 تموز/ يوليو
2013، انتهت بالسيطرة على الموصل في حزيران/ يونيو 2014.
تشير القدرات العسكرية والمالية
والإعلامية لتنظيم "الدولة" في ظروف عودته المتوقعة، إلى تفوق كبير عما
كان عليه إبان حقبة "دولة العراق الإسلامية"، إذ تؤشر أرقام متطابقة
صادرة عن الأمم المتحدة ووكالة الاستخبارات ووزارة الدفاع الأميركية في عام 2018
أن عدد مقاتلي التنظيم في العراق وسوريا يبين 20 و30 ألف مقاتل، وحسب ومركز
الدراسات الاستراتيجية والدولية، فإن هذا العدد لا يشمل مقاتلي التنظيم الموجودين
في فروعه الأخرى، فخريطة نشاط التنظيم وانتشاره تتوسع في مناطق وبلدان عديدة، إذ
يتمتع التنظيم بحضور كبير في أفغانستان، ولا يزال التنظيم يشن هجمات في شبه جزيرة
سيناء المصرية، ويحافظ على قدرته التشغيلية في جنوب شرق آسيا، وكذلك وسط آسيا، وفي
اليمن، وتعتبر القارة الإفريقية ساحة بديلة لتنظيم الدولة مع إصراره على تعدد
الجبهات والملاذات، وخصوصا منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، وغرب إفريقيا وشرقها،
ولا تزال شبكات التنظيم ومجاميعه المنسقة وخلاياه الفردية النائمة و"ذئابه
المنفردة" تشكل خطرا على أمريكا وأوروبا.
خلاصة القول أن ثمة عودة مرتقبة
لتنظيم "الدولة" للعمل كمنظمة أسرع مما كان متوقعا، فقد كشف
التنظبم عن قدرة فائقة على التكيّف مع
التحولات والمستجدات، وتمكن خلال فترة وجيزة من إعادة الهيكلة والعمل كمظمة لا مركزية، ولا تزال جاذبيته الإيديولوجية
مرتفعة، وقدراته المالية جيدة، وقدرته على استقطاب المقاتلين على الصعيد المحلي
تتنامى، وفي المقابل لا يزال الوضع السياسي والاقتصادي والأمني في العراق وسوريا هشا، وتفتقر القوات الرسمية
المحلية إلى الكفاءة والموارد اللازمة في ملاحقة عناصر تنظيم الدولة الإسلامية في
إطار تحول التنظيم إلى نهج حرب الاستنزاف وتكتيكات حرب العصابات، ويشكل ضعف
الاستقرار وتراجع عمليات إعادة الإعمار، إلى جانب سوء الحوكمة وسيادة منظومة
الفساد وشيوع الاستبداد، وتفشي الطائفية، الحاضنة الكافية لعودة تنظيم الدولة، وفي
منطقة رخوة تعاني من التدخلات الخارجية وصراع القوى الإقليمية والعالمية، فإن عودة
مرتقبة لتنظيم "الدولة الإسلامية" هي مسألة متوقعة.