هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
أثار قرار حركة النهضة التونسية خوض الانتخابات الرئاسية المزمع إجرائها منتصف سبتمبر القادم وترشيح نائب رئيس الحركة السيد/ عبد الفتاح مورو للرئاسة العديد من التساؤلات داخل الحركة وخارجها، فقيادي بارز بالحركة مثل رفيق عبد السلام وزير الخارجية التونسي الأسبق رأى في ذلك الترشح "خيار خاطئ ولا يستجيب لمقتضيات المرحلة... وأن الوحدة على الخطأ هي وحدة مغشوشة ومزيف".
ولمحاولة فهم موقف النهضة من الانتخابات الرئاسية علينا أن نرجع بالذاكرة للوراء زمناً، فمنذ نجاح الثورة التونسية في التخلص من بن علي ودخول البلاد للعهد الديمقراطي ورغم فوز النهضة بأكبر كتلة في المجلس التأسيسي (89 مقعداً) ثم أكبر كتلة نيابية بالبرلمان (68 نائباً)، إلا أنها امتنعت طواعية عن خوض انتخابات الرئاسة تماشياً مع قواعد اللعبة التي تقضي بالحفاظ على توازنات مصالح القوى الكبرى كأساس للمواءمات السياسية في عالمنا العربي ومفادها أن الغرب لن يسمح برئيس عربي صاحب توجه إسلامي حقيقي لما يمثله ذلك من خطورة على مشروعه، بدا ذلك واضحاً بعد في تجربة الجبهة الإسلامية للإنقاذ واكتساحها الانتخابات البرلمانية الجزائرية نهاية عام 1991م وما حدث بعدها من إلغاء نتيجة الانتخابات والانقلاب على التجربة الديمقراطية ودخول الجزائر آتون العشرية السوداء، ومؤخراً في الانقلاب الدموي على الرئيس محمد مرسي أول رئيس مدني منتخب في مصر بعد ثورة يناير 2011م.
وعلى ذلك ساهمت الحركة في الدفع بمنصف المرزوقي رئيساً لتونس في انتخابات غير مباشرة عبر المجلس التأسيسي عام 2011، ثم عدم خوض الانتخابات الرئاسية 2014م وقد رأت ما حدث في انقلاب يوليو 2013م بمصر فاجتهدت الحركة في الانصياع لإرادة الغرب وفتحت المجال بعدم تأييدها للمرزوقي المحسوب على معسكر الثورة لفوز الباجي السبسي رجل الغرب والوزير السابق في عهد بن علي ومرشح الدولة العميقة.
إن الوصول للحكم هو طموح مشروع لكافة الأحزاب والقوى السياسية التي تأسست أصلاً بهدف المنافسة على الحكم لا للعب دور حكومة الظل أو المعارضة، غير أن النهضة اجتهدت طوال السنوات الماضية في إقناعنا بعدم جواز ذلك عربياً حتى في أعقاب الثورات الشعبية الكبرى، فما الذي تبدل ودفع الحركة لتغيير استراتيجيتها وهي التي كثيراً ما انتقدت "إخوان مصر" وتعجلهم قطف ثمار التحول الديمقراطي وترشحهم للرئاسة دون مراعاة التوازنات السياسية بالمنطقة.
في مايو الماضي وبدعوة رسمية من الحكومة الفرنسية زار السيد/ الغنوشي فرنسا الفاعل الغربي الرئيس في شمال إفريقيا بحكم الإرث التاريخي وقيل وقتها أن هدف الزيارة مد خطوط التواصل مع ((الإسلام السياسي التونسي)) حفاظاً على منظومة المصالح الفرنسية سيما بعد فشلها الذريع في ليبيا والكابوس الذي تعيشه مع استمرار تصاعد حراك الجزائر، وما سرب من تفاهمات عن تلك الزيارة أشار إلى عدم ممانعة فرنسا (الغرب) من تشكيل النهضة للحكومة التونسية، لكن يبدو أن الأمر فاق ذلك الحد ليصل للسماح للنهضة بالتقدم للحكم.
اجتهدت الحركة في الانصياع لإرادة الغرب وفتحت المجال بعدم تأييدها للمرزوقي المحسوب على معسكر الثورة لفوز الباجي السبسي رجل الغرب والوزير السابق في عهد بن علي ومرشح الدولة العميقة.
إن ما تعده الحركة مرونة سياسية عبر إمساكها العصا من المنتصف هو في حقيقته إزدواجية وانتهازية غير مقبولة من حركة سياسية فضلاً عن أن تكون إسلامية، فمقابل نجاح الحركة في علاقتها بالغرب وطمأنته وإقناعه بما تتمتع به من مرونة شديدة تجاه موقفها من ((الثوابت الإسلامية)) خصوصاً فيما يتعلق بعلمنة الدولة بتخليها تماماً عن مبدأ دور الدولة في حراسة الدين، تقوم الحركة بخطاب سياسي داخلي موجه للمجتمع التونسي وقواعدها مخالف تماماً لما تعلنه في خطابها الخارجي ومناقض لما يتضمنه ذلك الخطاب من مبادئ. تجلت هذه الازدواجية في مواجهة الحركة لقانون الأحوال الشخصية التونسي الذي تضمن أحكاماً بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة كقاعدة عامة مع تمكين الراغبين في الاستثناء منها لأسباب عقدية أو غيرها من خلال عقد لدى كاتب العدل، خلافاً للثابت بأحكام الشريعة... تجنبت الحركة إسقاط القانون مباشرة بوصفها تمتلك أكبر كتلة نيابية تجنباً للحرج في مواجهة الغرب، كما عملت في ذات الوقت على تعطيله وعدم إصداره في البرلمان المنتهية ولايته يوليو الماضي مراعاة لقواعدها، وفي مقابل تصريح رئيس الحركة راشد الغنوشي في مقابلة مع صحيفة لوباريزيان الفرنسية نهاية نوفمبر الماضي ((...أنه لا يعارض القانون، وأن الأصل في الأشياء الحرية، المورث حر في الطريقة التي يختارها، من يريد توريث أطفاله بالمساواة فله ذلك...)) جاءت تصريحات نائب رئيس مجلس شورى النهضة مختار اللموشي للرأي العام التونسي صريحة برفض القانون والتمسك بنظام المواريث كما ورد في النصوص القطعية في القرآن والسنة.
هذا المنهج التحايلي لن ينطلي على الغرب صاحب المعايير المزدوجة أصلاً، فالغرب لا يرضى بأنصاف الحلول ولا يقبل إلا أتباعاً مخلصين، فهل ستقود النهضة تونس للدوران في فلك فرنسا لتسلم لها الرئاسة؟!!
أمام النهضة اختبارات حقيقية فيما يتعلق بقضايا الهوية ومرتكزاتها الثلاث، اللغة سيما معركة التغريب واستمرار الفرنسية كلغة أولى قبل العربية، والثقافة في ظل سيطرة المتفرنسين والمستغربين على مثلث صناعة الفكر (الإعلام والتعليم والثقافة) ومواجهة سيطرة المناهج الفرنسية على المدرسة التونسية، والتاريخ ومحاولة سلخ تونس من تاريخها العربي والإسلامي الناصع. بخلاف قضايا التبعية السياسية والاقتصادية.
وبعيداً عن التفاصيل التي ليس محلها هنا فإن الأمر لن ينتهي عند هذا الحد، فهل تعد موافقة الغرب على مرشح رئاسي من النهضة توريطاً للحركة في الحكم والاشتباك مع حاجات المواطنين اليومية في ظل ندرة الموارد الاقتصادية التونسية لإعلان فشل الحركة وسقوطها رسمياً، أم يكون استدراجاً للحركة للترشح في مواجهة المنصف المرزوقي الذي يمثل الثورة التونسية ليسقط كلاهما ويفوز مرشح الدولة العميقة عبد الكريم الزبيدي وزير الدفاع التونسي، أم أنها البديل المطروح في سياق العلاقة الجديدة بين الإسلاميين والغرب في ظل فقدان فرنسا لمحاورها القديمة والبحث عن بديل (حليف جديد) يحافظ على معادلة المصالح وخريطة التوازنات.
هذا المنهج التحايلي لن ينطلي على الغرب صاحب المعايير المزدوجة أصلاً، فالغرب لا يرضى بأنصاف الحلول ولا يقبل إلا أتباعاً مخلصين، فهل ستقود النهضة تونس للدوران في فلك فرنسا لتسلم لها الرئاسة؟!!
وتبقى كلمة أخيرة لو كان لي صوتاً في تلك الانتخابات وأنا المواطن صاحب الفكر والتوجه الإسلامي لأعطيته للمنصف المرزوقي بلا تردد ومن غير حسابات تنظيمية أو أيدلوجية لأسباب كثيرة ليس هنا مجال استعراضها لكن تبقى الكتلة التصويتية الصماء التي لا تعرف سوى الانتماء التنظيمي والتي غالباً ما ستكون عاملاً حاسماً في نجاح مرشح الدولة العميقة الضعيف عبد الكريم الزبيدي كما كانت عاملاً حاسماً من قبل في نجاح سابقه (السبسي) في انتخابات 2014م ...
فأين ستستقر كرة الثلج التي بدأت للتو بالتدحرج ... هذا ما ستجيب عنه الأيام القليلة القادمة.