هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الصهيونية فكرة استعمارية واستيطانية تقوم على تجميع اليهود في دولة يهودية تحت شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». لكن ذلك عنى عملياً أن الصهيونية ستغض النظر عن وجود شعب آخر في فلسطين، هو الشعب العربي الفلسطيني. وهذا سيجعل هدف الصهيونية منذ البداية التخلص من السكان الأصليين عبر التطهير العرقي من أجل إنشاء دولة لليهود القادمين من أوروبا.
وقد انطلقت الفكرة الصهيونية ذات المنشأ الأوروبي من أن اليهود أنشأوا مملكة لمدة 80 عاماً حول القدس، وذلك قبل ثلاثة آلاف عام، وأن تلك الفترة القصيرة من الوجود اليهودي تعطي اليهود الحق للمجيء إلى فلسطين ومصادرة الأرض والمكان على مراحل في القرن العشرين.
ويخبرنا التاريخ بأن المملكة اليهودية عاشت أقل من مائة عام من 1050 قبل الميلاد لغاية 930 قبل الميلاد في ظل حكم الملك شاول وداود والملك سليمان.
لكن تلك المملكة انقسمت إلى مملكتين متحاربتين. المملكتان لم تسيطرا على كل الأرض الفلسطينية التي استمر الكنعانيون والفلسطينيون القدامى في السيطرة علي أجزاء أساسية من سواحلها ومناطقها في الشمال والجنوب. وقد تم تدمير المملكتين اليهوديتين على يد الآشوريين والبابليين تباعاً ما بين القرنين السابع والرابع قبل الميلاد. ومنذ ذلك الوقت، لم تشهد فلسطين حضوراً يهودياً حقيقياً، بل استمر عدد قليل من اليهود في العيش في بعض مناطقها.
ما غفلته الصهيونية، عن قصد، أن اليهود كانوا واحدة من أقل الفئات التي عاشت وازدهرت في فلسطين، وأن الرومان واليونان والفراعنة حكموا فلسطين لفترات أطول منهم بكثير، وغفلت الصهيونية تماماً أن الفلسطينيين القدامى والكنعانيين القدامى استمروا في الأرض دون انقطاع في كل الأزمان، وأن أكثر الفئات تفاعلاً مع الأرض في فلسطين هم المسلمون العرب الذين قدموا إليها في القرن السابع الميلادي، فتداخلوا مع سكان البلاد الأصليين من نسل الكنعانيين والفلسطينيين. الحضارة العربية الإسلامية هي الأطول وجوداً في فلسطين. وبالفعل عندما وصل الخليفة عمر بن الخطاب لم يكن هناك يهودي واحد في القدس، وقد تمت صياغة هذا الموضوع في الاتفاقية بين الخليفة عمر وبين سكان القدس وقادتها المسيحيين.
لنفهم الصهيونية يجب أن نتخيل مثلاً بأن مجموعة من الفرنسيين جاؤوا لإنكلترا قائلين بأنهم كانوا كفرنسيين في بريطانيا لمدة 300 عام في القرن الحادي عشر (غزو النورمان). حينها تكلمت بريطانيا لغة الحاكم الجديد الفرنسي، ولم ينته هذا الوضع إلا في القرن الرابع عشر.
وبإمكاننا أن تتخيل مثلاً قيام بعض اليونانيين باحتلال مدينة الإسكندرية بحجة أن الإسكندر بنى الإسكندرية ومكتبتها العامرة، بل إن الإسكندرية سميت على اسم الإسكندر.
الحركة الصهيونية فكرة رجعية، وما كان لها فرصة النجاح إلا عبر تداخلها مع فكرة أسوأ منها: الاستعمار الغربي للعالم وللشرق، والاستعمار البريطاني لفلسطين الذي بدأ عام 1917. ليس غريباً أن إسرائيل في تركيبتها لا تشبه أياً من دول المنطقة، فمواطنوها أتوا عبر تجميع اليهود من دول شتى في العالم للمجيء لأرض ليست أرضهم، ومكان ليس مكانهم، ولمصادرة أراض ومناطق ومنازل ومدن وقرى ليست ملكهم.
والجدير بالانتباه، إن اليهود القادمين من العالم لفلسطين ليسوا في أغلبيتهم نفس اليهود الذين كانوا في فلسطين قبل 3000 سنة. ويسجل التاريخ أن الكثير من اليهود الذين كانوا في فلسطين وفي بلدان أخرى في الشرق انتقلوا للإسلام كما للمسيحية، بل يسجل بأن أشهر وأهم اليهود في التاريخ الإنساني كان يسوع المسيح، الذي ترك اليهودية وبشر بدين جديد اسمه المسيحية. بل يسجل التاريخ بأن الكثير من سكان فلسطين، أكانوا من جذور فلسطينية أم يهودية أم كنعانية، جلهم تحولوا للمسيحية، ثم تحول الكثير منهم نحو الإسلام.
إذاً، من هم اليهود الذين بنوا الصهيونية وصنعوا دولة إسرائيل؟ إنهم يهود أوروبا، وخاصة أوروبا الشرقية. هؤلاء اليهود انتقلوا لليهودية من المسيحية في أوروبا بحدود 750 ميلادي، وهذا ما حصل مع قبائل الخزر في أوروبا الشرقية ممن انتقلوا لليهودية لأسباب اقتصادية وضرائبية وبسبب ضغوط من إمبراطوريات محيطة. إذاً، معظم اليهود الذين صنعوا الصهيونية لا علاقة لهم باليهودية القديمة، بل هم يهود جدد دخلوا اليهودية بالدعوة.
وقد مرت الصهيونية بمراحل بعد إنشاء دولة إسرائيل وطرد الشعب الفلسطيني من المناطق التي قامت عليها الدولة، في إحدى هذه المراحل احتاجت إلى يد عاملة وكثافة سكانية يهودية، فاستهدفت اليهود العرب المستقرين في البلدان العربية، وسعت لجلبهم لإسرائيل بعد حرب 1948؛ وذلك ليقوموا بالأعمال اليدوية. ولتنجح الصهيونية كان لا بد من تدمير عروبتهم وجعلهم يخجلون من أصلهم وتراثهم العربي.
إن المرحلة التي جاءت باليهود لإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين تختلف عن المرحلة الراهنة. فمنذ أن بدأ القرن الحادي والعشرون انتشرت نزعة قومية يهودية متطرفة تؤمن بعدم التنازل، وتؤمن بأخذ كل الأرض وما تبقى منها بيد الفلسطينيين، وتؤمن باستمرار سياسات الطرد والتطهير. إن الصهيونية اليوم أقل إيماناً بالسلام، بل إن أحد عناصرها المتطرفة هو الذي قتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995، الذي وقع اتفاق أوسلو وتحول نحو بعض من المرونة. ومع ذلك يسعى بعض العرب للمساومة مع الصهيونية الجديدة المتطرفة.
التطرف الجديد في إسرائيل لا يعبأ بالسلام مع العرب إلا ضمن شروط التفوق الإسرائيلي المطلق، لهذا تقر الصهيونية بشكلها الجديد القوانين التي تعاقب على تذكر النكبة أو المجاهرة بمظاهر الحزن في ذكرى ما يسمى استقلال إسرائيل (يوم النكبة)، وتقر إسرائيل قوانين جديدة تؤكد على يهودية الدولة، كما أن استيطانها للضفة الغربية والقدس يتقدم بوتيرة متسارعة، وهذا أساس فهمها لصفقة القرن.
وارتفعت وتيرة التطرف في إسرائيل مع كل رأي يهودي ناقد للصهيونية أو رافض لها، وهذا دفع عدداً من المعارضين للصهيونية من اليهود والإسرائيليين إلى الهجرة أو الصمت. هذه الصهيونية الجديدة التي يسعى قطاع من العرب للتفاهم معها هي الأكثر استبداداً واستعداداً للحروب والأقل استعداداً للحلول الوسط.
عن جريدة القدس العربي اللندنية