هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
منذ ولادته، ما فتئ المشروع الصهيوني لاستعمار فلسطين عازماً لا تلين له قناة، ويعبر عن ابتكار أيديولوجي وبهلوانيات استخدمت في تعليب سرقته للبلد.
بينما كان الهدف في البداية هو إقامة دولة ذات أغلبية يهودية في فلسطين، أمكن إنجازها بنجاح لعدة عقود من خلال طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين في عام 1948 ثم في عام 1967، اضطر الصهاينة في المدة الأخيرة إلى مواجهة واقع قديم متجدد مفاده أن اليهود هم مجرد أقلية في الدولة الاستيطانية الاستعمارية التي أقاموها لأنفسهم.
الخطر الديموغرافي (السكاني)
باتت الحكومة الإسرائيلية الآن تتوجس من تناقص أعداد اليهود وتصاعد أعداد الفلسطينيين الخاضعين لسيطرتها على مدى العقود الماضية. ودفع ذلك إلى تنظيم عدد من المؤتمرات التي طرحت قضية "الخطر الديموغرافي" الذي يشكله الفلسطينيون على مشروع إسرائيل الاستيطاني الاستعماري.
كان المؤتمر الأول برعاية معهد السياسات والاستراتيجيات التابع لمركز هرتزليا متعدد التخصصات، والذي انطلق في ديسمبر / كانون الأول من عام 2000. وكانت إحدى "النقاط الرئيسية" التي تم تحديدها في تقرير المؤتمر المكون من اثنتين وخمسين صفحة هي القلق إزاء الأعداد المطلوبة للحفاظ على التفوق اليهودي داخل إسرائيل. حيث نص التقرير على أن: "معدل الولادة المرتفع بين مواطني إسرائيل من الفلسطينيين يثير شكوكا حول مستقبل إسرائيل كدولة يهودية ... وفيما لو استمر التوجه الديموغرافي الحالي كما هو فإنه سيشكل تحدياً لمستقبل إسرائيل كدولة يهودية. وبذلك سيكون لدى إسرائيل خياران استراتيجيان: التكيف أو الاحتواء. يتطلب الخيار الأخير سياسة ديموغرافية فعالة طويلة المدى تضمن آثارها السياسية والاقتصادية والتعليمية الحفاظ على الصفة اليهودية لإسرائيل."
كان من بين الحضور في المؤتمر رئيس الوزراء الحالي ورؤساء وزراء سابقون والرئيس الإسرائيلي موشيه كاتساف، وشارك في رعايته اللجنة الأمريكية اليهودية، والمركز الإسرائيلي للتقدم الاجتماعي والاقتصادي، ووزارة الدفاع الإسرائيلية، والوكالة اليهودية، والمنظمة الصهيونية العالمية، ومركز الأمن القومي في جامعة حيفا ومجلس الأمن القومي الإسرائيلي التابع لمكتب رئيس الوزراء.
من نافلة القول أن الاستراتيجيتين اللتين سلط المؤتمر الضوء عليهما كخيارين لتعديل هيمنة الأقلية اليهودية على الأغلبية السكانية الفلسطينية قد فشلتا.
مقاومة ضد الاستعمار
بينما كانت الصهيونية تبرز في نهايات القرن التاسع عشر، حينما كان الاستعمار الأوروبي في ذروته، كان زعماؤها يتفاخرون بأن حركتهم جزء من المساعي الاستعمارية الأوروبية حول العالم. حينذاك، بدأت الرابطة الاستعمارية اليهودية، والتي تأسست في عام 1891 لتمويل المستعمرات اليهودية في شمال وجنوب أمريكا، وخاصة في الأرجنتين، في تمويل المستعمرات اليهودية في فلسطين بعد عام 1896.
وبمجرد أن قررت الحركة الصهيونية بعد أقل من عقد التركيز حصرياً على استعمار فلسطين، تقرر أيضاً تحويل الرابطة الاستعمارية اليهودية، وفعلاً أعيدت تسميتها في عام 1924 لتصبح رابطة الاستعمار اليهودي لفلسطين، ومنذ ذلك الوقت بدأت أموالها تكرس حصرياً للاستعمار اليهودي في فلسطين. وكان أول مصرف يهودي قد تأسس في عام 1899 وأطلق عليه اسم الصندوق الاستعماري اليهودي بهدف شراء الأراضي الفلسطينية وتخصيصها حصرياً لاستخدام اليهود.
وفي مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كانت المقاومة ضد الاستعمار في آسيا وأفريقيا في أوجها، بدأ الصهاينة يقترحون إدخال تعديلات على مفرداتهم الأيديولوجية. بل لقد دون فريدريك كيش، رئيس الجهاز التنفيذي الصهيوني في فلسطين المكلف بالاستعمار اليهودي في فلسطين، في مذكراته في عام 1931 أنه كان يناضل من أجل حذف كلمة "استعمار" من اللغة المستخدمة من قبل الصهاينة في ذلك الوقت. وقال: "إن الكلمة غير مناسبة من وجهة نظرنا بما أن المرء لا يقيم مستعمرات في وطنه وإنما خارجه: فعلى سبيل المثال نتحدث عن المستعمرات الألمانية في الفولغا أو المستعمرات اليهودية في الأرجنتين، بينما من وجهة النظر العربية ترتبط مفردة "يستعمر" بالإمبريالية والعدوانية."
ومنذ خمسينيات القرن العشرين، ذهب الدعائيون الصهاينة يعملون بجد لإعادة توصيف المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني باعتباره مشروعاً للتحرير الوطني لليهود. ومن خلال الزعم بأن إقامة دولة إسرائيل لم يكن عملاً استعمارياً وإنما نضالاً من أجل "الاستقلال" من الاستعمار، سعت إسرائيل إلى طمس تاريخ الجدل الذي كان يدور بين الزعماء الصهاينة حول الاسم الذي ينبغي منحه للوثيقة التي كانوا ينوون إصدارها في الرابع عشر من مايو / أيار من عام 1948.
وعندما اقترح البعض تسميتها "إعلان الاستقلال" صوتت الأغلبية ضد مقترحهم فأسقطته. وخلص الصهاينة إلى تسمية الوثيقة: "إعلان إقامة دولة إسرائيل". ورغم أن الإعلان يأتي على ذكر التطلعات اليهودية نحو "إقامة دولة مستقلة"، إلا أنها لم تشر إلى إقامة إسرائيل كدولة "مستقلة" وإنما كدولة "يهودية".
لم يكن ذلك سهواً، أو خطأ غير مقصود، وإنما نتيجة لإدخال تعديل تضمن إضافة عبارة "مستقلة ذات سيادة" إلى الإعلان. ومع ذلك يعترف المدافعون عن إسرائيل، في أحسن الأحوال، ودونما مفارقة، بأن البلد قد يكون أنشئ من خلال عملية استعمار ولكن ليس من خلال مشروع إمبريالي.
حق إسرائيل في الوجود
لقد أصرت إسرائيل منذ الخمسينيات وحتى التسعينيات من القرن العشرين على أن تعترف الدول العربية بحقها في الوجود – وهي صيغة لم يحصل من قبل أن طلبتها دولة في العالم من قبل لأن القانون الدولي ينص على أن الدولة يمكن أن يكون معترفاً بها بحكم الأمر الواقع أو بحكم القانون، ولكن لا يوجد لأي دولة حق قانوني في الوجود.
وفي سبعينيات القرن العشرين، عندما ألحت منظمة التحرير الفلسطينية في المطالبة بأن يحصل الشعب الفلسطيني على حقه في تقرير المصير، قابلت إسرائيل ذلك بما يسمى "تقرير المصير الإسرائيلي". وعبر عن ذلك في عام 1972 وزير الخارجية الإسرائيلي أبا إيبان، الذي أعلن أنه "ينبغي لتقرير المصير الإسرائيلي أن يكون مقدماً أخلاقياً وتاريخياً على تقرير المصير الفلسطيني، وإن كان لا ينفيه نفياً باتاً."
لم يختلف إعلان أبا إيبان عما كان قد ورد في تصريحات سابقة صدرت عن دافيد بن غوريون وحاييم وايزمان من إصرار على وضع الحق اليهودي في غزو فلسطين فوق حق الفلسطينيين في تقرير المصير.
وبحلول عام 2007، أصرت حكومة إيهود أولمرت، ومن بعدها حكومة بنجامين نتنياهو، على أنه بما أن مصر والأردن ومنظمة التحرير – التي تحولت من خلال اتفاقيات أوسلو من حركة تحرير إلى تابع للاستعمار الإسرائيلي – أجبرت على الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود كمستعمرة استيطانية، فإن المهمة القادمة التي يُنتظر من الفلسطينيين وجميع العرب الآخرين القيام بها هي الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية حيث يتمتع اليهود عرقياً ودينياً بوضع يتفوقون فيه عن غير اليهود.
في هذه المرحلة الأخيرة، بدأ الدعائيون الإسرائيليون يتحدثون عن "تقرير المصير اليهودي" بدلاً من "تقرير المصير الإسرائيلي". وقد تحول ذلك إلى موقف رسمي في العام الماضي بسن قانون الدولة القومية في إسرائيل، والذي أعلن أن "دولة إسرائيل هي الوطن القومي للشعب اليهودي الذي ينجز حقه التاريخي في تقرير المصير. إن ممارسة حق تقرير المصير الوطني في دولة إسرائيل حكر على الشعب اليهودي."
شرعنة العنصرية التي تكفلها الدولة
لم يحصل من قبل أن تبنت الحركة الصهيونية قضية تقرير المصير، سواء كمبدأ قانوني أو كحق، كما لم يُنص عليه في القانون الإسرائيلي. وأيضاً لم يرد له ذكر عبر التاريخ في الوثائق الصهيونية الأيديولوجية – لا في كتابات تيودور هيرتزل ولا في إعلان وعد بلفور ولا في وثيقة انتداب عصبة الأمم ولا في خطة التقسيم الصادرة عن الأمم المتحدة ولا في "إعلان إنشاء دولة إسرائيل" الصهيوني.
والحقيقة هي أن "حق الدولة اليهودية في الوجود" ما هو سوى الصيغة التي طالما أصر عليها عدد من رؤساء الولايات المتحدة مطالبين بأن يقبل الفلسطينيون وغيرهم من العرب بها. فمن جورج دبليو بوش إلى باراك أوباما، جرى تهديد الفلسطينيين بعواقب وخيمة إذا ما رفضوا. وشيفرة هذا الحق هي "تقرير المصير اليهودي".
تهدف خطة الرئيس دونالد ترامب التي تسمى صفقة القرن إلى إضفاء مشروعية نهائية على المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني وعلى حق إسرائيل في ممارسة العنصرية المكفولة من قبل الدولة.
يقر زعماء إسرائيل الآن بأن المستعمرين اليهود وذراريهم سوف يبقون إلى الأبد أقلية في فلسطين التاريخية، وخاصة أن الإجراءات التي تم اللجوء إليها في الماضي لتحويلهم إلى أغلبية من خلال التطهير العرقي والطرد لم تعد خيارات متاحة.
ونظراً لعدم القدرة على تقليص عدد الفلسطينيين، تهدف خطة ترامب إلى حرمان اللاجئين الفلسطينيين بشكل نهائي من حق العودة إلى وطنهم، وهو الحق الذي يضمنه القانون الدولي، وذلك من خلال تقويض الأونروا، تلك الوكالة الأممية التي توفر لهم المساعدات التي هم في أمس الحاجة إليها. وكان ياسر عرفات قد بين في مقالة نشرتها له صحيفة نيويورك تايمز في عام 2002 أنه مدرك للمخاوف الديموغرافية العنصرية لدى إسرائيل حين يتعلق الأمر بحق العودة الفلسطيني.
تعبئة جيوب رجال الأعمال
بالنسبة للأغلبية الفلسطينية التي تعيش تحت الاستعمار الإسرائيلي وفي ظل حكم الأقلية اليهودية، فقد أتى قانون الدولة القومية الإسرائيلي على حقوقهم بشكل كامل ولم يبق منها ولم يذر. فالفكرة من حصر حق تقرير المصير بالمستعمرين اليهود هي تكريس ممارسة ذلك الحق بغض النظر عن التعداد السكاني. لم يعد ثمة خيار أمام إسرائيل سوى التخلي عن ادعائها بأنها منظومة ديمقراطية ليبرالية.
وما "ورشة العمل" التي انعقدت في البحرين هذا الأسبوع تحت عنوان السلام والرخاء سوى آلية للتعبير عن دعم الولايات المتحدة الذي لا يتزحزح لرفض إسرائيل إخلاء أي من الأراضي الفلسطينية المسروقة أو منح أي حقوق للأُغلبية التي تتكون من السكان الفلسطينيين، والذين مازالوا يعيشون على تلك الأرض والذين لم يعد بإمكان إسرائيل إخراجهم منها.
بدلاً من إعطاء الفلسطينيين – الذين كانوا دوماً ضحايا لجميع الصفقات الأمريكية والإسرائيلية السابقة – حقوقهم المعترف بها دولياً، تعرض صفقة القرن ملء جيوب الحكام ورجال الأعمال الفلسطينيين والعرب، والذين كانوا باستمرار المستفيدين من الصفقات الأمريكية والإسرائيلية السابقة.
ترجمته "عربي21" عن موقع ميدل إيست آي البريطاني