مقالات مختارة

جنرال العقوبات الاقتصادية

غسان شربل
1300x600
1300x600

حبس العالم أنفاسه حين اجتمع الرئيس دونالد ترامب بأركان إدارته لبحث الرد على قيام إيران بإسقاط طائرة أمريكية مسيّرة. وكان من حق العالم أن يقلق، فقد سبقت الحادثة ممارسات وتحرشات مباشرة أو بالواسطة استهدفت ناقلات وأهدافا مدنية. وبدا واضحا أن إيران ابتعدت عن سياسة «الصبر الاستراتيجي»، واختارت دفع الأزمة في اتجاه حافة الهاوية. ثم إن من حق المراقبين أن يشعروا بالقلق حين يكون القرار في يد رجلين يصعب التكهن مسبقا بردودهما. الأول هو ترامب، وهو قبطان لا يسهل التكهن سلفا بأسلوب تعامله مع العواصف، ويملك قدرة استثنائية على مفاجأة مستشاريه، ومعهم العالم. والثاني المرشد علي خامنئي الذي يصعب عليه، خصوصا في هذه المرحلة، التساهل في أمر صورته وصورة بلاده.


لم تعد الصورة غامضة حول ما دار في الاجتماع المثير. كان واضحا أن وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي ومديرة «سي آي إيه» يؤيدون إيفاد رسالة عسكرية تعيد تذكير إيران بالخطوط الحمر التي يتعين عليها ألا تتخطاها في تحديها للولايات المتحدة. لكن كبير الجنرالات طرح سؤالا عما ستفعله أمريكا إذا ردت إيران على الرسالة بتوسيع دائرة التحرشات في المنطقة. ولأن الذهاب بعيدا في تبادل الضربات يحمل في طياته إمكان الذهاب إلى حرب واسعة، اختار الرئيس اللجوء إلى سلاح الصبر لإعطاء طهران «فرصة أخيرة».


لا غرابة في الأمر؛ ترامب ليس جنرالا يحلم بالانتصار في حرب، وهو ليس مدنيا يخفي تحت ثيابه جنرالا. جاء سيد البيت الأبيض من قاموس آخر: قاموس الصفقة والتسوية. ثم إنه كان كثير الاهتمام باستعادة الجنود الأمريكيين من مناطق الاشتباك، أي سوريا وأفغانستان والعراق. قراره بالانسحاب من شرق سوريا بعد هزيمة «داعش» أثار قلق مستشاريه وحلفائه الأوروبيين، الذين مارسوا عليه ضغوطا كبرى لإرجاء موعد تنفيذ قراره، وهو ما اضطره إلى التجاوب. يعتقد ترامب أن بلاده تملك أسلحة أخرى غير القاذفات والمدمرات؛ تمتلك سلاح العقوبات الاقتصادية، وهو لا يتردد في اللجوء إليه.


ويمكن فهم قرار ترامب في سياق مواقفه؛ فهو أعلن باكرا أنه لا يريد حربا مع طهران، وبعث لها برسائل من هذا النوع. أبلغها أيضا أن أمريكا لا تضع إسقاط النظام الإيراني هدفا لضغوطاتها، وأن الأمر يتعلق بتعديل السلوك الإيراني في الملفات النووية والباليستية والإقليمية. ثم إن ترامب اعتبر لجوء إيران إلى ممارسات حافة الحرب يشكل دليلا قاطعا على أن العقوبات النفطية عليها موجعة فعلا. في المقابل، بعثت إيران عبر ممارساتها وممارسات وكلائها برسالة مفادها أن الحرب عليها ستشعل جبهات عدة ضد مصالح أمريكا ومصالح حلفائها، وأن حرمانها من تصدير نفطها سيحرم دولا أخرى في أوروبا وآسيا من الحصول على النفط عبر مضيق هرمز. كما بعثت إيران برسالة مفادها أنها ستتحلل من التزاماتها بموجب الاتفاق النووي، ما يعني العودة إلى التخصيب بنسبة مقلقة.


وفي خطوة يمكن أن تؤدي إلى حرب، كان على ترامب أن يلتفت إلى حال العلاقات بين بلاده وكل من روسيا والصين، وأن يلتفت أيضا إلى الموقف الأوروبي الراغب في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الاتفاق النووي، وتفادي العودة إلى المربع الأول، والذهاب إلى حرب تترك آثارها على الاقتصاد العالمي. لقد ترك للأوروبيين فرصة البحث عن إمكان خفض التصعيد، واستكشاف إمكان العودة إلى طاولة المفاوضات، خصوصا أن إيران أغرقت زيارة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى طهران بممارسات تصعيدية. ولعل ترامب أراد امتحان قدرة الأوروبيين على إقناع إيران بأن الخروج من العقوبات المؤلمة، يستلزم مرونة من جانبها في ملفاتها التي باتت مفتوحة على مصراعيها، وهي تتخطى الموضوع النووي إلى البرنامج الباليستي وسياسات زعزعة الاستقرار عبر ممارسات الوكلاء. ولهذا نقل النزاع مع إيران إلى مجلس الأمن، وأرفق ذلك بالإعلان عن عقوبات جديدة في الوقت نفسه.


كُتب الكثير في الأعوام الماضية عن تراجع أهمية الشرق الأوسط في حسابات الكبار. وأكد مسؤولون ومحللون أن هذه المنطقة الغنية بالثروات والنزاعات، لم تعد تحتل موقع الصدارة في استراتيجيات الدول الكبرى. وقيل إن أمريكا التي تستشعر قوة الهدير الآسيوي المتصاعد، ستركز قواها في محيط العملاق الصيني لاحتواء صعوده المتسارع. وذهب بعضهم إلى التحدث عن استقالة أمريكا من دور الشرطي في الشرق الأوسط لأن تدفق النفط ليس مهددا، ولأن تفوق إسرائيل العسكري مضمون. وأظهرت سياسة باراك أوباما رغبة واضحة في إبعاد الأيدي الأمريكية عن جمر الشرق الأوسط، وبهذه الروحية جاء انسحاب القوات الأمريكية من العراق، والمشاركة في الاتفاق النووي مع إيران. وثمة من استنتج أن عهد إرسال الأساطيل إلى المنطقة قد انتهى، بعدما بات عليها أن تنشغل بالتحركات الروسية في بحار أخرى، وبعروض القوة الصينية في محيط بلاد ماو.


فجأة، تبين أن جاذبية الشرق الأوسط عالية جدا، وأنه يمتلك من التصدعات والأخطار ما يكفي لاستدراج القوى الكبرى مجددا إلى مياهه وأرضه. بدأت القصة مع إطلالة «داعش» المدوية، ثم استكملت مع عودة النشاط إلى مفاعل التوتر الإيراني في الإقليم. وها نحن نرى الانتشار الأمريكي في أرض الخليج ومياهه، ونرى الجيش الروسي يرابط في سوريا، بموجب اتفاقات تتيح له إقامة مديدة.
وعلى الرغم من كل ما كُتب، ها هي إدارة ترمب تجد نفسها غارقة في امتحان كبير في الشرق الأوسط الرهيب. تراهن إيران على تهديد الاقتصاد العالمي، وضرب حظوظ ترامب في ولاية ثانية، عبر رفع أسعار النفط. ويراهن ترامب على مفاعيل العقوبات الاقتصادية لإرغام إيران على إعطائه ما رفضت إعطاءه لباراك أوباما. المحادثات التي ستدور على هامش قمة العشرين في أوساكا هذا الأسبوع حول إيران بالغة الأهمية. إننا في خضم الأزمة، والتكهن صعب. لكن قد يستنتج جنرالات «الحرس الثوري» صعوبة الاستمرار في التصعيد ضد دونالد ترامب، جنرال العقوبات الاقتصادية هنا وهناك. فهز ركائز الاقتصاد الإيراني أخطر على بلاد المرشد من قصف المنصات الصاروخية والرادارات وتدمير الجسور. كان الاتحاد السوفياتي مسلحا حتى الأسنان، وتوارى من دون إطلاق رصاصة في اتجاهه.

 

عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية

0
التعليقات (0)