هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مع تمكن الثورة المضادة من الإمساك بمفاتيح القرار السياسي والسلطة في مصر، أصبح لها متنفذون يستمدون نفوذهم من بث الكراهية ونشر الفتن بين أبناء الشعب الواحد، ودق الأسافين بينه وبين أشقائه. ومع ازدياد الاختراق الصهيوني لأعماق الدولة المصرية، عملت الثورة المضادة على تأكيد وجودها ونشر فوضاها بالتنظيم المحكم وبالدعم اللامحدود من قوى متربصة ومتمكنة، وكثير منها يشغل مواقع مؤثرة في دوائر الحكم. وشكلت هذه القوى كتائب متنوعة، إعلامية، ومالية وقانونية وغيرها. وفي السنوات الأخيرة نشطت كتائب أفسدت مهنة القانون، واتخذتها ستارا لملاحقة المفكرين والمثقفين والأكاديميين والشخصيات الوطنية من رجال السياسة والاجتماع والاقتصاد والفن والأدب، والعلماء ورواد النهوض بالوطن، والارتقاء بالمواطن.
وعليَّ أن أتدارك عدم إطلاق أوصاف غير دقيقة على قوى الثورة المضادة، وتعبير الكتائب لا يتناسب مع أي نشاط مضاد لمصالح الوطن والمواطن، فالكتيبة تشكيل محكوم بنظام قانوني للضبط والربط، هدفه المساواة وحفظ كرامة المواطن والتعامل معه باحترام وتقدير كامل. ومن يقوم بغير ذلك، ولا يتحلى بشيم الانضباط والالتزام بالقانون والخضوع لقواعده، وعليَّ أن أختار صفة مناسبة لمهامهم الشيطانية وعملهم خارج القانون. والكتائب كثيرا ما تتحلى بالمكاشفة والحوار والمشاركة والالتزام، وإذا اقتضى الأمر التزام الصرامة في التنفيذ، فذلك محكوم بقاعدة «نَفِّذ ثم تَظَلَّم».
والعناصر المقصودة تتعامل بمنطق القطيع، تنفذ ما يُطلب منها دون تعليق.
هناك تفاصيل مروعة لا تتسع لها المساحة، وطلبت من الشاب، كباحث وحامل لدكتوراه الدراسات الإسلامية تسجيل تجربته هذه على الورق، وقدمت له تعهدا بطباعتها ونشرها كي يطلع عليها الآباء والأمهات، خاصة نظام التجنيد، والتركيز على الأطفال والصبية الصغار في سن التاسعة والعاشرة دون علم الأهل بما يحدث لهم بعيدا عن الأعين. وكلما ذهبت إلى مصر أبحث عنه فلا أجده، وقد يكون معتقلا. وسأحاول مرة أخيرة من خلال صديق له، إذا طال العمر! ونبهني إلى استكشاف طريقة تربية «المليشيات» وإعدادها، ووجدتها تقوم على إلغاء العقل، وقتل ملكة التفكير، والالتزام بما يقوله «الأمير»، وإطاعته المطلقة. وهذا نوع من «البرمجة البشرية»، ذكرني بـ«تكنيك» طورته معامل المخابرات الأمريكية والصهيونية. وحقق نتائج ملموسة في ثمانينيات القرن الماضي، واستفادت منه أجهزة أمنية ومليشيات متنوعة على مستوى العالم، وذلك لتتمكن من السيطرة على أعضائها، وطُبق في عمليات معروفة، كاغتيال مغني «الخنافس» الشهير «جون لينون»، وفي محاولة اغتيال الرئيس الأمريكي رونالد ريغان.
ووجدت صعوبة من جانبي في توصيف القوات المسلحة والشرطة بـ«المليشيات». ولكن حين أجد بين عناصرها من يعمل خارج القانون، وينفذ عمليات بالقطعة، وعلى هوى أي مسؤول أيا كان حجمه وعمله، ويُصدِر تعليماته، ملتزما بمعادلة «التأديب والانتقام والتضييق»، ويمثل التعذيب والعزل والحرمان من الحقوق القانونية والإنسانية أبشع صوره، بالنسبة للمحتجز أو المعتقل، فهذه عناصر «مليشاوية» لا يؤتمن جانبها!!
ولأن موضوعنا عن ظاهرة «المليشيات القانونية»، المُشَكَّلة من محامين وقانونيين معادين للعدالة، وبدلا من دفاعهم عن الحقوق المغتصبة أو الضائعة وعن المظلومين، يقومون بالعكس ويستهدفون قوى التنوير والتغيير، وينحازون دوما للاستبداد، وقد تخصصوا في تدبيج البلاغات القضائية، وتكسبوا من تحريض السلطات ضد المتميزين والبارزين الوطنيين، والعلماء والأكاديميين والمثقفين والكتاب والصحفيين والفنانين، ممن لم يلتحقوا بركب القطعان. والتهم معلبة وجاهزة، وتثير السخرية، وهي عار ومهينة للجهات التي تتولى هندستها وتقبل بتلفيقها. وتمثل وصمة في جبين القانون والعدالة والمنطق والدولة ذاتها.
والمحامي الذي تقدم بالبلاغ ضد سوريي مصر، من ألد أعداء العدالة. وحين اطلعت على نصه، وجدته يطالب بمعاقبة السوريين على نجاحهم «في ظروف الحرب وتحقيق ذواتهم وفرض الوجود بين العمالة المصرية وتنافسوا معها، ووجدوا التشجيع والحفاوة والمضي في مشروعاتهم التي لاقت النجاح والشهرة»، والكلمات بين الأقواس من نص البلاغ المقدم كما جاء على موقع «روسيا اليوم» الإخباري.
وما العيب في نجاح السوريين أو نجاح أي عربي؟ ولو كان الناجح أمريكيا أو صهيونيا هل كان قد تقدم ببلاغه؟ وهل يريد السوريين عالة وكسالى، وهم معروف عنهم أن كرامتهم تأبى ذلك، وهل احترام النفس، وإتقان العمل والجدية تتطلب العقاب؟ وتُعد جرائم تقتضي المحاسبة القضائية!
وبالبحث عن سبب تقديم البلاغ، وجدته مطعما بمدينة «مرسى مطروح» الساحلية، يحمل اسم «مطعم أرطغرل»، مؤسس الدولة العثمانية، هذا وأكدت مصادر رسمية وشبه رسمية مطلعة، لموقع «روسيا اليوم» أن مالكه مصري من المنوفية وليس سوريا، واسمه «محمود المنوفي»، ولا علاقة للمطعم بتركيا، وحتى لو كان المالك سوريا، ما هو الضير؟ والوجود السوري طبيعي ومألوف في مناطق مصرية متفرقة، ولم يعاملهم أحد كغرباء، باستثناء «الذين في قلوبهم مرض»، فالسوريون انتقلوا من «الإقليم الشمالي» وحلوا أهلا وسهلا على «الإقليم الجنوبي»، منتجين وفاعلين وناشطين وأهلا.
السوريون واللبنانيون والسودانيون والعراقيون والخليجيون والليبيون وغيرهم، يعيشون في مصر، والتاريخ يحمل لكل منهم قدره، ولا ينسـى دور الشوام (سوريين ولبنانيين وفلسطينيين وأردنيين)، وقد ساهموا في النهضة الفكرية والثقافية والصحفية والفنية المصرية، ما بين النصف الثاني للقرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وأيام الوحدة وما بعدها. ومنزلي يقع في ضاحية قريبة من القاهرة، وفد إليها الأشقاء السوريون، واندمجوا فيها بسرعة، وشكل وجودهم حافزا على التجويد والإتقان والخلق الرفيع، وأعطوا الحياة مذاقا عذبا استحسنه عموم المصريين.
ولم أجد في البلاغ ما يشين، بل مصدر فخر للسوريين والمصريين، فمجرد اختيار السوريين لمصر، هو وفاء لتاريخ مشترك، امتزجت فيه دماء الشهداء الزكية على مر التاريخ، وعاشوا معا تحت راية واحدة، في الشمال وقفت سوريا شامخة، رغم المعاناة، فوصفها المصريون بـ«سوريا الحبيبة»، وفي الجنوب فردت كنانة النيل أجنحتها، مرحبة وممتنة، تنهل من ينابيع الود والمشاعر المتدفقة، فلطفت من الجفاف، وخففت التجريف الذي عم «القارة العربية».
وحتى لو أن هناك هنات، ولم يظهر منها شيء بعد، فالمواطن في بلده حقوقه واحدة، ومساواته مطلقة. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وحساب هذه «المليشيات القانونية» يُترك للتاريخ، وهو كفيل بهم. وقد أعادوا للأذهان ذكريات مؤلمة عن مواقف أمثالهم، وتحاملهم على الفلسطينيين عقب نكبة 1948، وبدلا من التخفيف وتضميد الجراح، أشاعوا أنهم باعوا الأراضي وتركوا المنازل والأملاك لليهود. وليس من المروءة بث الكراهية عند المحن ووقت النكبات، التي يحتاج الإنسان فيها للمواساة والمساندة والتعاطف، وفي النهاية فإن فاقد المروءة لا يُعاتب ولا يُلام، وصدق من قال، «إن فاقد الشيء لا يعطيه».
عن صحيفة القدس العربي اللندنية