هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل أيام أحيا الشعب الفلسطيني في كل أماكن وجوده الذكرى الحادية
والسبعين لنكبته الكبرى عام 1948، وسيحيي بعد أيام قليلة الذكرى الثانية والخمسين
للاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ عام 1967.
وطيلة
هذه العقود، شهد شعبنا نكبات متوالية في محاولة لتصفية وجوده الوطني، آخرها الحرب
المفتوحة التي شنتها إدارة الرئيس ترامب ضد شعبنا باعترافها بالقدس عاصمة
لإسرائيل، ومحاولة شطب حق العودة للاجئين، وشرعنة المستوطنات، وإعطاء الضوء الأخضر
لحكومة نتنياهو بضم معظم الضفة الغربية.
ومن الغريب أن الولايات المتحدة تمعن في هذه الممارسات التي تُظهر
العداء الصريح لشعبنا والانحياز الصارخ إلى أقصى اليمين الإسرائيلي في الوقت الذي
تدّعي فيه أنها بصدد إعداد خطة للتسوية أطلقت عليها «صفقة القرن». ويتبين إذا أن
هذه الصفقة المزعومة هي ليست خطة لحل الصراع بقدر ما هي خطة لتصفية القضية الوطنية
لشعبنا واستكمال المشروع الصهيوني الهادف إلى بناء «إسرائيل الكبرى».
كان
من الطبيعي أن يقف الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وبقيادته السياسية موقف الرافض لهذه
الخطة، خصوصا أن عناصرها الرئيسة فيما يتعلق بالقدس واللاجئين والمستوطنات باتت
موضع التنفيذ العملي، وما بقي خافيا من عناصر هذه الخطة هو ليس سوى الجزء الثانوي
منها، وبخاصة وجهها الاقتصادي.
تدرك
واشنطن أن استكمال تنفيذ هذه الخطة رغم الظرف الفلسطيني يتطلب تجنيد الدعم السياسي
لها من قبل دول عربية وإقليمية تلعب دورا مركزيا في تشييد النظام الإقليمي الذي
تسعى الولايات المتحدة لفرضه على المنطقة. ومن هنا فإن الوظيفة المتوخاة من ورشة
العمل التي دعت إليها الإدارة الأمريكية في المنامة والتي رغم كونها تلبس لبوس
المشروع الاقتصادي، وتسعى إلى تزيين الخطة بوعود الازدهار والرخاء هي في الواقع
فعل سياسي بامتياز هدفه جرّ دول المنطقة، وبخاصة الدول العربية الأكثر أهمية، إلى
موقع المشاركة في دعم الخطة والانخراط في تنفيذها حتى قبل أن يتم الإعلان عن
مضمونها الكامل.
فليس
من المنطقي أن يجري حديث عن تجنيد عشرات مليارات الدولارات وضخ الاستثمارات في
منطقة صراع مع الاحتلال لم تستقر معالمها الجيوسياسية على حل واضح بعد، إضافة إلى
تنظيم مؤتمرات تناقش قضايا الشعب الفلسطيني الاقتصادية وغيرها دون موافقة أو
مشاركة ممثلي الشعب الفلسطيني، بل وتجاوز منظمة التحرير وتوجيه الدعوة إلى شخصيات
ليست لها أي صفة تمثيلية، وهي شخصيات في معظمها رفضت الدعوة تعبيرا عن التزامها
الوطني.
ولذلك
فقد دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس في كلمته أمام القمة العربية الطارئة وفي
كلمته أمام منظمة التعاون الإسلامي، الدول العربية والإسلامية إلى عدم حضور هذه
الورشة، وأعلن أن فلسطين لن تشارك فيها، لأن عدم حضور هذه الورشة يعني الوقوف في
وجه فرض حل يستبدل بـ«مبدأ الأرض مقابل السلام» مبدأ «الازدهار من أجل السلام»،
مؤكدا وقوفه ضد هذه المشاريع الاقتصادية التي تسعى إلى تغيير المرجعيات الدولية
والقانونية الهادفة إلى إنهاء الاحتلال وتجسيد استقلال فلسطين على حدود 1967
وعاصمتها القدس الشرقية وحل قضايا الحل النهائي كافة وعلى رأسها قضية اللاجئين
وفقا للشرعية الدولية والإفراج عن الأسرى.
إننا
عندما ندعو الدول العربية والإسلامية ودول العالم لعدم حضور الورشة فإننا ندعوهم
للتمسك بالقانون الدولي والشرعية الدولية وحل الصراعات بالطرق السلمية، مؤكدين
التزامنا بقرارات قمة الظهران 2018 وقمة تونس 2019 وبالمبادرة العربية، والامتناع
عن فرض حلول يرفضها الشعب الفلسطيني بكل أطيافه انسجاما مع الالتزام العربي برفض
ما يرفضه الفلسطينيون، لأن الطريق الوحيد للسلام هو إنهاء الاحتلال وليس تنميته
وازدهاره وتشريعه.
إن
التسريبات التي نُشرت من قبل الولايات المتحدة لمضمون المقترحات الاقتصادية التي
ستقود برأيها إلى الازدهار هي أيضا تؤكد حتى في المجال الاقتصادي الطبيعة التصفوية
لخطة ترامب؛ ذلك أن الجزء الرئيسي من الاستثمارات المقترحة سوف يُوجه نحو مشروع
ضخم لتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية المحيطة، توافقا مع مخططات
تجفيف موارد وكالة الغوث الدولية «أونروا» وإعادة تعريف اللاجئ، وتقويض ركائز
القانون الدولي والشرعية الدولية في معالجتها لقضية اللاجئين.
إن
تصميم الإدارة الأمريكية على تغيير حقائق المنطقة أدى إلى غفلتها عن أن هذه
التسريبات تُبدّد حتى محاولات تقديم خطتها الاقتصادية كرشوة للفلسطينيين بديلا عن
حقوقهم الوطنية. لقد أكد الشعب الفلسطيني بكل مكوناته وفي جميع أماكن وجوده أن
فلسطين وحقوقها الوطنية فيها ليست للبيع، ولا يمكن لأي رشوة اقتصادية أن تدفعها
للتنازل عنها. ولكن فوق هذا الموقف المبدئي يتبين أن الرشوة نفسها ملغومة بمتفجرات
التصفية والقضاء على قضية اللاجئين، وهذا يعزّز من صحة الموقف الذي اتخذته القيادة
الفلسطينية ببصيرتها الثاقبة منذ البداية برفض هذا العبث بمستقبل شعبنا ووجوده.
في
الحقيقة، إن الازدهار الذي تَعِدُ به هذه الخطة هو في الواقع ازدهار الاقتصاد
الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي الذي يُراد له أن يُهيمن على كل مقدّرات المنطقة
بما في ذلك على مقدّرات دول الخليج وثرواتها وغيرها من البلدان العربية، وفي هذا
السياق يجري الحديث عن تحسين الشروط المعيشية للشعب الفلسطيني تحت مظلة الاحتلال
بديلا عن حل سياسي لقضيته الوطنية.
لكن التجارب المريرة التي مرّ بها شعبنا خلال نصف القرن الأخير تبرز
حقيقة أن أي تحسن في مستوى المعيشة في ظل قمع الاحتلال وسيطرته على كل الموارد لن
يكون سوى حالة طارئة مؤقتة سرعان ما تتبخر تحت وطأة هيمنة المصالح الاستعمارية
وقسوة القمع الإسرائيلي.
إن
دعوتنا للدول العربية ولدول العالم لرفض الانخراط في هذا المخطط هي ليست فقط دعوة
للتضامن مع الشعب الفلسطيني الذي يقف في الخندق الأمامي للدفاع عن القدس والأقصى،
وإنما هي أيضا دعوة لها للانتصار لحريتها وكرامتها وحقها في السيطرة على الموارد
التي حباها بها الله واستخدامها لخير شعوبها.
ولذلك
نجدد دعوتنا للدول العربية والعالم أجمع إلى مقاطعة مؤتمر ترامب في المنامة، فحديث
غرينبلات عن تغيير التاريخ وتحويل المنطقة إلى «مكان يحترم فيه الناس بعضهم بعضا»
-كما أعلن عن ذلك في تصريحاته- هو إهانة للشعوب العربية تفضح مسعى واشنطن لحرف
مسار التاريخ بعيدا عن الحرية والتسامح وتكريسا للعبودية والهيمنة.
كما
ندعو كل القوى السياسية والبرلمانات ومؤسسات المجتمع المدني العربية للوقوف صفا
واحدا معنا وإطلاق حملة منسقة للتصدي للمخطط الأمريكي وإسقاطه، دفاعا عن الشرعية
الدولية وعن حقوق الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية.
أعلنت
دولة فلسطين ومنظمة التحرير الفلسطينية مبادرتها للسلام في المنطقة القائمة على
مؤتمر دولي يستند إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ويضمن جلاء الاحتلال
الإسرائيلي عن الأرض الفلسطينية وتجسيد سيادة دولة فلسطين بعاصمتها القدس وحل قضية
اللاجئين وفقا للقرار 194 والمبادرة العربية، وهذا ما تبنّته قمة الظهران وقمة
تونس وقمة التعاون الإسلامي أمس. هذا وحده هو الحل القابل للاستمرار، وفيما عدا
ذلك فهي دعوات للإيغال في الحروب والفتن والقمع الاحتلالي.
أما الشعب الفلسطيني فهو صامد ومتجذر في أرضه ولن تنجح أي قوة في
اقتلاعه منها، والخيار الذي يواجهه العالم اليوم هو تمكين هذا الشعب من ممارسة حقه
في تقرير المصير أو إبقاء المنطقة أسيرة لدوامة الحروب والعنف وسفك الدماء.
عن
صحيفة الشرق الأوسط اللندنية