هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لا أريد الدخول في تفاصيل فقه «المصارحة» أو واجبات المكاشفة، مع أن فقهاء الدين «للأسف» لم يعتنوا كثيرا بهذا الموضوع؛ نظرا لتركيزهم على فقه الأحكام، بدلا من فقه الحياة والإنسان، ومع أن فقهاء السياسة أيضا لم يفلحوا في إقناع المتلقي بما أبدعوه من مصطلحات رديفة تعبّر عن المعنى المقصود، ولكنني أشير إلى مسألة تتعلق بخطابنا العام، وما يصدر عنه من رسائل في هذا الاتجاه أو ذاك.
إحدى هذه الرسائل تقوم على افتراض أنه ليس لدينا الكثير من الخيارات، وأننا -من ثمّ- محكومون لمنطق «الاضطرارات»، وهذه قد تبدو صحيحة أحيانا، ولكن إقناع الناس بها يحتاج إلى منطق «المصارحة»، بمعنى أن نبسط كل الحقائق أمامهم، ونفتح أبواب الحوار والنقاش حولها، لكي ننجح من ثمّ بالتأثير فيهم، وتحويلهم من «مدرجات» المتفرجين إلى دوائر المشاركة الفاعلة، من هذه الرسائل -أيضا - ما يقوم على افتراض إمكانية الاستدعاء وقت الطلب والحاجة، بمعنى أن «لواقط» الناس مفتوحة دائما لاستقبال ما يصل إليها من ذبذبات، ومن ثم الاستجابة لها، وهذا -بالطبع - غير صحيح إذ إن الرسالة الجيدة لا تعتمد فقط على صياغة الديباجات، وتكرار البدهيات، وإنما على «الأدلة» والبراهين، أو -إن شئت - على«صناعة» الحدث لا على صناعة الكلام عنه أو حوله، أو -حتى - بالتحفيز على القيام به.
منطق المصارحة -أيضا - لايتعلق بخطاب يوجّه إلى الأفراد بانتقائية معزولة عما يحدث في الواقع، ولايتعلق بقضايا تفصيلية مختارة، وإنما يفترض أن يكون «عاما» وعميقا وشاملا، بمعنى أن يبدأ من تحسين المناخات وتوسع دوائر الاتصال، وإزالة ما حدث من انسدادات، أو -إن شئت - إعادة النظر في «السيستم» النظام السائد، لأن المشكلة لا تتعلق باتجاهات الأفراد وميولاتهم، وإنما بما تولّد لديهم من «قناعات» بأن غدا لن يكون أفضل من الأمس، وهذا الخطاب ضد فكرة «إحياء» الأمل وإشاعة «الثقة» التي يحتاجها الخطاب -أي خطاب - ليكون جيدا ومقنعا في آن.
لدى الناس إحساس يتعمق يوما بعد يوم بأن مجتمعنا يمر بمشكلات صعبة، وأن مواجهتها تحتاج إلى أشكال مختلفة من الحلول والتضحيات والمبادرات، ومن التضامن والتعاون والفهم المشترك، لكن هذه الشراكة التي تسعى إلى ردم الفجوة بين الاضطرارات والخيارات تحتاج دائما إلى منطق «المصارحة»، لا على صعيد المقررات فقط، وإنما ما يصدر بعدها من «خطاب» لتفسيرها وتمريرها، أو ما يرتد من صدى لذلك لدى المعنيين بقبولها والاستجابة لها أيضا.
تنويه :
مسؤولية تحسين الخطاب العام لا تتعلق بالحكومة فقط، وإنما بالنخب والمجتمع ولا تقتصر على «الإعلام»، وإنما تتجاوزه إلى المنابر والمراكز الأخرى، ولا تتعلق بالأسلوب والأدوات، وإنما بالمضامين أيضا.
عن صحيفة الدستور الأردنية