في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2013، كانت الذكرى الأولى لحرب أكتوبر المجيدة بعد الانقلاب، وكنا معتادين في حراكنا الثوري أن نحيي تلك المناسبات بفعاليات خاصة في الميادين العامة والكبيرة، في الوقت الذي كانت الحملات الأمنية على أشدها في مطاردة الثوار في الشوارع إذا تم رصد أي تجمع قبيل التظاهرة. كان من المفترض أن تبدأ المسيرة بعد صلاة الظهر مباشرة، على ألا يتم لفت انتباه الأمن الذي يبدو أنه رصد بعض التحركات، مما أدى لتواجده بالفعل حول المسجد القريب من ميدان التجمع بشارع تجاري هام في إحدى المدن الساحلية. وعادة كان يتم التقاء الثوار بالمسجد، وحين لاحظنا تلك الحركة الأمنية ابتعدنا عن المكان وأدينا الصلاة في الشارع، قرب كافيه هادئ تماما. كما كان الشارع كله يبدو هادئا، بعد الصلاة تجولنا قليلا، وكنا اثنتين، بينما نبحث عن الثوار الذين نلتقي بهم أسبوعيا، فلا نكاد نرى أحدا. المحال التجارية مفتوحة، لكن حركة البيع والشراء محدودة أو معدومة، ولا يوجد على مرمي البصر إلا تحركات الأمن الذي يحيط بالمسجد شبه الخاوي. قلت لرفيقتي إن الفعالية بالتأكيد ألغيت، أو يجب أن تلغى حفاظا علينا، فنحن مكشوفون تماما، والعدد قليل إن كان هناك عدد من الأساس، غير مجموعات من الشباب الذين لا يبدو عليهم أنهم ينتمون لأي ثورة. فلون الملابس ونوعها وقصات الشعر لا تنم عن حالة ثورية، بقدر ما تنم عن حالة تيه وفراغ. فكرت في الانسحاب بهدوء وترك المكان قبل أن يتم رصدنا..
وفي الموعد المحدد للتظاهرة بالدقيقة، رأيت مشهدا ظل حتى اليوم ماثلا أمام عيني: مئات من الصافرات يؤديها الشباب الثائر من أماكن مختلفة، وإذا بمئات من الأولاد والبنات يخرجون من المحال التجارية، والشوارع الجانبية والسيارات على جانبي الشارع، بصورة عفوية وسرعة غير معتادة، ثم مئات يقفزون من خلف أسوار البيوت القريبة لتتكون في دقيقتين مسيرة فيها عشرات الألوف، لتنقل على القنوات الفضائية في نفس اللحظة هتافات بعد الصفير المرعب، ثم يليه التكبير، ثم هتاف "خافي منا يا حكومة"، ليقف الأمن مرتبكا ويضطر للانسحاب بهدوء، بينما يقف كبيرهم متسائلا: من أين أتي أولا الـ..؟
كانت تظاهرة كبيرة وغريبة وجديدة، وإبداعية باستخدام الصفير لتجميع الثوار الأحرار المنتشرين في الشوارع المحيطة بمكان التجمع، بينما لا يدري كل منهم بمكان الآخر، ليقف الأمن عاجزا عن مواجهتها، لفجائية التجمع وسرعته، والعدد الكبير، فيضطر لتركها وتتم دون التعرض لها، وفي مكان حساس كوسط مدينة؛ يغلب عليها طابع السياحة والمستوى الاجتماعي فوق المتوسط.
#اطمن_انت_مش_لوحدك
وها هي ست سنوات تمر على الانقلاب العسكري على أول تجربة ديمقراطية يعرفها الشعب المصري، مرت خلالها الثورة بمراحل صعود وهبوط وانعطاف وصراعات ومواجهات؛ كان نتاجها دماء وفقرا ومرضا وانقساما، حتى تجمد المشهد المصري عند المربع الصفري بعد عجز الجميع عن المواجهة منفردا، وبعد أن انفرد العسكر بكل فصيل على حدة فيكسب أرضا جديدة على حساب يناير، ويستطيع فرض سيطرته على الساحة ببث الفرقة بين الثوار، ثم الخلاص من كل الأصوات المعارضة وتلفيق التهم لها، وتغييبها عن المشهد بوضعها قيد الاعتقال، والحرص على بقاء الوضع على تلك الفرقة، والتي أخذ في ترسيخها يوما بعد يوم، لتمر سنوات ثلاث بينما المشهد الثوري يكاد أن يكون ميتا، وظن النظام أن الأمور قد آلت له بشكل كامل، فطمع بعد التنازل عن مياه النيل وعن الجزر، وبيع أحياء القاهرة، والدعوة لعودة الصهاينة للبلاد.. طمع في تعديل مواد الدستور لتضمن له البقاء جاثما على صدور العباد إلى ما لا نهاية.
تنكشف هشاشة ذلك النظام وذعره من صافرة وشعار وبضع كلمات مكتوبة علي العملات الورقية المتداولة بين أيدي الناس
وبينما تتجه سياسة الحكم الذي يفتقد لأدنى مقومات القيادة والإدارة؛ إلى تجريف البلاد من بقايا الثورة التي خبت في نفوس المقهورين، يطلق الإعلامي معتز مطر دعوته
للنزول بالصافرات التي جمعتنا يوما في مسيرة لم تجد وسيلة لتجميعها إلا الصافرة، والطرق على الأواني تحت هاشتاج #اطمن_انت_مش_لوحدك، لكسر حواجز الخوف بالنزول واللقاء المباشر مع الأمن المتمركز بكثافة في معظم الميادين الحيوية، وإلقاء حجر ثقيل في الماء الراكد، لتنكشف على أثره هشاشة ذلك النظام وذعره من صافرة وشعار وبضع كلمات مكتوبة علي العملات الورقية المتداولة بين أيدي الناس..
يتطور الأمر لتصير الدعوة فاعلة وتنتقل بين مدن مصر في مواعيد مسبقة يتم الاتفاق عليها، ويمتد الهاشتاج ليصير عربيا، يحمله ثوار الجزائر ومصر والسودان وفلسطين، ويتم تبادل الرسائل بين الثوار هنا ليستحثوا الثوار هناك، والعكس.. يتحرك الماء الراكد بالفعل بمجرد دعوة تظهر تعطش الناس للثورة والانفجار، ولقائد يجمعهم على كلمة ويحركهم تجاه فعل، ولو كانت مجرد صافرة في الفراغ وفي جوف الليل، ليتم الرد عليها بصافرة أخرى، ليكتشف الكثيرون أنهم لم يكونوا يوما وحدهم، فهناك الجار الذي قد يظهر مؤيدا للنظام نهارا ويمنعه الخوف من البطش أن يواجه بكلمة معارضة أو إبداء الرفض.. اكتشف أصحاب الأرض في الوراق وسيلة يُسمعون العالم بها أنهم أصحاب الأرض ولو تقاضى السيسي ثمنها، وأنهم لن يخرجوا منها ولو حاصرتهم دبابات العسكر، ولو كان التعبير بصافرة أو مزمار يجتمع عليه ثوار القاهرة مع ثوار الإسكندرية التي صمتت طويلا.
ما الذي يخشاه النظام المصري من صافرة؟
ما الذي يخشاه نظام يدعي أن أمور الحكم قد استتبت له من مجرد كلمة "اطمئن"، وصافرة متبادلة بين أشخاص لا يعرف أحدهم الآخر؟ ما الذي يحرك نظاما بأجهزته الأمنية والإعلامية ليحارب أسرة إعلامي أطلق تلك الحملة، ويطاردها ويعتقل أفرادها بمن فيهم الأطفال؟ ما الذي يدفع أجهزة إعلامية للنيل من الحملة والتشكيك في جدواها والحض على اعتقال كل من يشارك فيها، لتقوم الأجهزة الأمنية بالفعل باعتقال عشوائي للشباب في الشوارع الرئيسية والميادين العامة في العاصمة والمدن الكبري؟ إن جواب تلك التساؤلات لا يخرج عن احتمال وحيد، وهو هشاشة ذلك النظام وضعفه، وقراءته الصحيحة للمشهد في الشارع، ومعرفته بأبعاد حجمه ومدى كراهية ورفض الشعب لاستمراره، بل له دلالة على أن وجود النظام أصبح مهددا في حد ذاته.
إن حملة الصفير والطرق ليست هي الحملة الأولى للمعارضة في الخارج، بل سبقتها حملات داخلية وخارجية؛ ربما لم تكن الاستجابة وقتها بنفس حجمها هذه المرة، وهو ما ينم عن نضج واستيعاب الشعب لما يدور حوله، وفشل نظام الانقلاب في إقناع الناس بنفسه، بل كلما مر الوقت كلما ازداد الحنق والرفض والتشبع بالثورة.
لقد لاقت الحملة نفوسا مهيأة للثورة والرغبة في الحراك بالفعل، وقد أدرك النظام تلك النقطة، ولذلك كان تحركه للانتقام والتنكيل بأسرة الاعلامي أكبر من حجم دعوته ذاتها.
الشعب المصري ما عاد يحتمل استمرار نظام يمارس الفشل عمدا، والثورة بداخله تعتمل وتنتظر الشرارة التي تفجر الغضب الكامن داخل النفوس، وقد عبّر عنها بصافرة توشك أن تسمع الدنيا صوتها
لقد أتت الدعوة في وقت تقوم فيه الدولة بدور البلطجي ضد أصحاب المحال والمشروعات الصغيرة، ليشبه الرد حالة العصيان المدني التي لجأ إليها التجار والصناع في مدن صناعية تجارية، كدمياط وكفر الشيخ، لغلق محالهم تماما، لتمتد حالة الإضراب لمدة أسبوعين، فيضطر النظام لتأجيل تلك الحملات حتى يتم توفيق الأوضاع ماليا.
لقد أدرك النظام الانقلابي في مصر ما لم يدركه المعارضون له في الداخل والخارج، بشأن خطورة أي دعوة ولو كانت بسيطة في ظاهرها؛ لإثارة الجماهير وتجميعها على فكرة وإحياء الأمل لديها في إمكانية إحداث تغيير جذري والقضاء على الانقلاب بثورة صحيحة ومكتملة الأركان هذه المرة، وها هو النظام الانقلابي يجند أدواته للتهوين منها والنيل من القائمين عليها.
إن الشعب المصري ما عاد يحتمل استمرار نظام يمارس الفشل عمدا، والثورة بداخله تعتمل وتنتظر الشرارة التي تفجر الغضب الكامن داخل النفوس، وقد عبّر عنها بصافرة توشك أن تسمع الدنيا صوتها رغما عن هذا النظام. وقد اكتسب الشعب خبرة ثورية يستطيع معها أن يحدد مساره، ويختار قيادته التي سوف يفرزها من ذاته، ويصنعها على عينه.
إن كل مساحة تتركها المعارضة دون أن تثبت ولاءها لمصالح الشعب سوف يملؤها الشعب بنفسه، فارضا شروطه الخاصة. وعلى من يريد أن يلحق به أن يكون تابعا لا قائدا. ويبقي السؤال الأهم: من يشعل فتيل الثورة بعد تحريك الماء الراكد؟ فمن يفعل، هو وحده من يستحق القيادة.