هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مرة أخرى تنهض شعوب عربية من أجل التغيير، في احتجاجات ضد أنظمة الحكم، في ما يمكن أن نسميه «الموجة الثانية» من الانتفاضات العربية. فالمؤكد اليوم أن أوضاع المنطقة تجمعت فيها من عناصر الاحتقان والغضب ما يجعل فكرة الموجة الثانية من الانتفاضات بادية لا تخطئها العين. فبقدر ما أربكت أنظمة الحكم العربية في المجمل، متضامنة ومنفردة، الموجة الأولى من الانتفاضات ودعوات التغيير، التي انطلقت من تونس نهاية 2010، ونجحت في احتوائها والحد من تطلعاتها، بقدر ما راكمت هذه السياسات المقاومة للتغيير من العوامل والأسباب لاندلاع انتفاضات جديدة، بسبب ما أشاعته من خيبة أمل وإحباط، وما كشفت عنه من عدم قدرة هذه الأنظمة على الاستجابة لاستحقاقات المرحلة ولا التكيف معها.
لن نبالغ إذا قلنا إن ما يحصل في الجزائر من حراك شعبي معطوف على ما يحدث في السودان، أشرّ على تحول جديد يحبس أنفاس حكام المنطقة المتوترين المتخوفين من أي حراك شعبي، يذكرهم بـ»كابوس» الانتفاضات العربية التي عاشتها المنطقة في 2011. كما يبعث هذا الحراك برسالة أمل للشعوب العربية كلها، التي تتابع باهتمام وشغف مسار هذا التحرك. حراك استمسك بسلمية مذهلة، واحتفالية جاذبة ومغرية، تعبيرا عن مطالب وأهداف واضحة في التغيير والانتقال لمرحلة جديدة في تاريخ الجزائر. وما يحصل في الجزائر لحظة تاريخية حاسمة في تاريخ البلاد والمنطقة، بغض النظر عن دوافع وحيثيات من وقف وراء إطلاق شرارته بدءا، أو من شارك فيه التحاقا، أو تعاطف معه بعدا. فقد استحال هذا الحراك إلى دينامكية شعبية حساباته تختلف، بل تتناقض تماما مع حسابات ودوافع من أراده مجرد صراع على السلطة. فالقوى الشعبية التي شاركت في الاحتجاجات نجحت في الانتقال بها إلى ديناميكية تغيير وثورة، بدل ديناميكية إدارة صراع وتدافع داخل منظومة الحكم.
والحراك الجزائري، المندفع باتجاه للمستقبل، عبر فرض الانتقال الديمقراطي، وتأسيسا لجمهورية ثانية، إذا عطفناه على الانتفاضة في السودان، نصبح أمام «موجة ثانية» للربيع العربي. فالشعب السوداني خاض منذ أسابيع ملحمة من الاحتجاجات السلمية في شوارع الخرطوم وغيرها من المدن، مطالبا بشكل سلمي بتغيير النظام، رفضا لتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي، عجزت السلطة عن معالجته، في ظل وضع سياسي تعطل فيه التداول السلمي على السلطة، واحتكر فيه الرئيس عمر البشير الحكم لثلاثة عقود، بدون أن يفسح الفرصة أمام البلاد لتجديد النخبة الحاكمة، بل أحكم قبضته على مقاليد السلطة، وضيّق هوامش المشاركة السياسية، حتى على التيار الذي جاء به إلى الحكم. إذ تضع كل التقارير الدولية والإقليمية اليوم السودان في ذيل الدول الأقل ديمقراطية سياسة، والأضعف شفافية حكما، بديون خارجية تجاوزت 50 مليار دولا أمريكي. والحقيقة أن الحراك الشعبي اليوم لا يقتصر على الجزائر والسودان، بل تشهد دول عربية أخرى حراكا شعبيا متفاوتا، من موريتانيا ضد عهدة جديدة غير دستورية لمحمد ولد عبد العزيز بعد ان استنفد عهدتيه وفعلا اضطر تحت ضغط حراك شعبي وسياسي إلى الرضوخ، معلنا عن عدم عزمه الترشح. وفي المغرب لم يتوقف الحراك الشعبي أكانت احتجاجات الريف ضد الأوضاع الاجتماعية، أو تجدد حراك فبراير المطالب بالإصلاح السياسي، كامتداد للحراك الذي عاشه المغرب في 2011، فرضت إصلاحات دستورية، لا يبدو أنها فعّلت بالشكل المطلوب وبالشكل الجدي المعبر عن إرادة في الإصلاح. ليبيا هي الأخرى تعيش منذ سنوات على وقع التدافع الشرس بين الثورة والثورة المضادة، وبقدر ما نجحت فيه قوى الثورة في إجهاض محاولات أطراف داخلية وخارجية معادية للتغيير لإرباك تجربة التغيير، بقدر ما بقيت البلاد تعاني من حالة انقسام حاد، بسبب التدخلات الاقليمية والدولية، التي باتت واضحة للعيان، على غرار التوتر والتنافس المحموم بين إيطاليا وفرنسا. أما الوضع في مصر فبقدر ما يبدو نظام السيسي يحكم قبضته على البلاد، بقدر ما تبدو شرعيته تتآكل بأسرع من المتوقع، لاسيما بعد توسل النظام المقاربة الأمنية المحضة في التعاطي مع المجتمع. حالة من القمع غير مسبوقة، انهارت فيها منظومة حقوق الإنسان بالكامل، يفاقمها وضع اقتصادي صعب، مع تراجع سخاء المساعدات الاقتصادية الخارجية، لاسيما من دول الخليج، واستشراء الفساد، ما اضطر نظام السيسي إلى اقتراض 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي، معمقا بذلك حجم الدين الذي تجاوز 93 مليار دولار نهاية عام 2018. ولعل تصدر شعار «إرحل يا سيسي» الهاشتاغات الأكثر انتشارا في مصر، يعكس تعطش المصريين لتغيير حقيقي للنظام، الذي أسسه السيسي على أنقاض التجربة الديمقراطية المجهضة بانقلاب عسكري.
كما تعيش الأردن أوضاعا اقتصادية صعبة، حيث وصل الدين الخارجي لأكثر من 40 مليار دولار، ما يساوي 95% من مجمل الإنتاج المحلي. وضع جعل البلاد تعيش هشاشة اجتماعية متزايدة، عبرت عنها الاحتجاجات المستمرة المطالبة بإصلاحات عميقة. وتبدو التدخلات الخليجية لإسناد الوضع الاقتصادي الأردني تأمينا لاستقراره، باعتباره حاجة ملحة لكل المنطقة القلقة من عدوى الاحتجاجات. إلا أن تلك المساعدات لم تخرج الوضع الأردني من أزمته الهيكلية المستحكمة. أزمة تراكم حالة من الغضب الشعبي والاحتقان الاجتماعي، الذي يعبر عن نفسه عبر احتجاجات لا تكاد تتوقف حتى تتجدد. وحتى تونس التي تبدو استثناء، إلى حد ما، لم يسعفها الوضع الاقليمي والعربي المتفجر بأن تتعافى تماما، بل على العكس من ذلك، تتداعى عليها هذه الأوضاع سلبا، ما جعلها تعيش تجربة قلقة بقدر ما تظهر واعدة واستثنائية بقدر ما تبدو هشة، تميل لاستعادة عناصر الأزمة والانتكاس. وتعاني تونس كغيرها صعوبات اقتصادية واجتماعية جدية، بتفاقم دينها الخارجي ليتجاوز 35 مليار دولار، ما يساوي 72% من الناتج المحلي. وضع فجّر احتجاجات اجتماعية واضرابات عامة، هددت أكثر من مرة استقرار البلاد والحكومة.
المؤكد أيضا أن الدول الخليجية هي الأخرى تواجه اليوم تحديات كبيرة كغيرها من نظيراتها في المنطقة. فتحديات إقامة الحكم الرشيد والعادل، وتوفير مستوى عيش، قائم على الرفاه ومتناسب مع تزايد الحاجيات الجديدة للمواطن الخليجي، باتت مطالب ملحة. فتنامي الوعي السياسي والاجتماعي في ظل التحول الإعلامي الذي تشهده المنطقة وما تمثله منصات التواصل الاجتماعي من أدوات لضخ المعلومات، غير القابلة للتحكم والسيطرة، بات يملي على أنظمة الحكم تغييرات كبرى تستوجب حد التخلي عن المنوال السياسي والاجتماعي والاقتصادي التقليدي، والتكيف مع التحولات الكبرى في وعي وحياة المواطن الخليجي والاستجابة لانتظاراته. فالتحدي الاقتصادي والاجتماعي الذي بات مطروحا بشكل جدي، في ظل اختلال واضح بين تزايد حاجيات ومتطلبات الرفاه الذي تعيشه هذه الدول، وتراجع واضح في أسعار النفط إلى مستويات كبيرة، هبطت بها من 120 دولارا في السنوات الماضية إلى أقل من 70 دولارا اليوم. هذا الاختلال بتعمقه سترتبك معادلات الحكم والتوازنات داخله. وتواجه السعودية وضعا استثنائيا في عملية التحول، باعتبارها الدولة المحورية في المنطقة، إذ لا تبدو قادرة إلى اليوم على التوصل لبناء معادلة حكم مستقرة، فلا هي نجحت في التخلص من المعادلة التقليدية (العائلة + الثروة + الدين) وأسست لمعادلة حكم حديثة، ولا هي أقامت معادلة توفيقية، فتبدو في وضع غير مستقر، انعكس سلبا وبشكل عميق على أوضاعها الداخلية (حالة قلقة) والخارجية (حالة توتر إقليميا ودوليا). وضع يتداعى وبشكل سلبي على بقية الدول الخليجية. فالسعودية اليوم ما بين ترتيب وضعها الداخلي المحتقن بالاعتقالات، وملف اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، والبحث عن منوال اجتماعي واقتصادي جديد، والجموح الخارجي الذي يكلفها في حرب اليمن لوحدها ما بين 5 و6 مليارات دولار شهريا، تواجه ضغوطا داخلية وخارجية كبيرة لحسم خياراتها بحكمة، وبشكل يستجيب لتطلعات السعوديين في حكم رشيد وللاستحقاقات الإقليمية التي تملي عليها سياسات رصينة، تتناسب ومحوريتها في المنطقة. فالأزمة الخليجية مثلا، وما أحدثته من شرخ في المنطقة، وما سببته من تشظي منظومة كانت توفر حدا من التماسك لبعضها بعضا، أمنا وسياسة واقتصادا واستقرارا، سيجعل هذه الدول أكثر رخاوة في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
اللافت أن هذا الوضع العربي الحامل عوامل انفجار كبيرة، يأتي في ظل ما يمكن اعتباره انهيارا كاملا للنظام العربي. لم تعد المنطقة منذ سنوات محمولة بمرجعية لا شاملة ولا جزئية، لا اقليمية ولا قومية. فالجامعة العربية في حالة عطالة كاملة، والاتحاد المغاربي في حالة شلل، ومجلس التعاون الخليجي منقسم على نفسه بشكل غير مسبوق في تاريخ المنطقة. ولا يبدو الوضع السوري يتجه للحل في ظل صراع دولي، لا تسمح القوى الفاعلة فيه لا بانتصار النظام ولا بانهياره.
هذا الوضع العربي لا يمكنه أن يستمر كما هو لوقت طويل، لأن استمراره يعني المزيد من التفكك والانهيار، بينما غريزة البقاء تدفع قوى ودولا للتحرك للخروج من حالة الفوضى والتفكك، إلى معادلات جديدة، إما بإراداتها الذاتية أو بترتيبات دولية فوقية تفرض عليها، مثلما هو الشأن بما يسمى «صفقة القرن» بشأن الصراع العربي الإسرائيلي والتسويات في الملف السوري، التي قد تأتي على حساب الجميع، بلدا وشعبا. في خضم هذا الوضع يبدو الحراك الشعبي في الجزائر وفي السودان وبدرجات أقل في البلدان العربية الأخرى استمرارا لديناميكية التحولات التي تشهدها المنطقة منذ عام 2011. وهي تحولات مستحقة وحتمية في سياق البحث عن معادلات حكم واستقرار جديدين على المستوى الداخلي والخارجي. والمثير في هذه الموجة الجديدة أنها تأتي وقد خبرت الشعوب والقوى المتطلعة للتغيير وتعلمت من مسار الموجة الأولى من الانتفاضات، لذلك بدا الحراك الشعبي في الجزائر لافتا في سلميته جاذبا في حضاريته.
الخلاصة أنه ومع ما يحدث في الجزائر كدولة محورية في المنطقة والسودان وما يعتمل في المنطقة العربية، تبدو ملامح الموجة الثانية للربيع العربي ليست فقط استحقاقا شعبيا، وإنما ضرورة استراتيجية لمنطقة لم تعد تتحمل هذا الفراغ غير المسبوق.
* كاتب وباحث تونسي
* نقلا عن "القدس العربي"