تُحيي إيران هذه الآونة الذكرى الأربعين لثورتها التي غيّرت تاريخ البلاد من أقصاها إلى أقصاها، والتي يعتبرها الإيرانيون الحدث الأبرز في سجلّ وطنهم الذي يتربع اليوم على طاولة السياسة الإقليمية إذا ما تمّ تداول ملفات المنطقة. ولأنها كذلك، فقد وقف الرئيس الإيراني حسن روحاني اليوم على المنصّة وسط العاصمة الإيرانية طهران، ليخطب بالحشود الجماهيرية التي تنادت لإحياء ذكرى أربعين الثورة، ويتكلم باللهجة الإيرانية المعهودة ذات المحتوى الثوري، والتراكيب اللغوية المنتقاة بحذر، من أجل الوصول إلى خطابةٍ محفّزة لدى الجماهير تُنسيهم ما ينتابهم من مشكلات وتحديات لاسيما على مستوى الاقتصاد..
بعد أربعين عاماً على ثورة إيران، تتصدر مشكلة الاقتصاد الساحة الإيرانية، لعدة أسباب، أوّلها جملة العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام الإيراني، وثانيها الحروب والمشاركة العسكرية التي نفّذتها إيران في عدة دول في الإقليم. وبين السببين وجد المواطن الإيراني نفسه في ورطةٍ اقتصادية جعلته يفكّر مليّاً، وربما يطالب في كثير من الأحيان سلطات بلاده وبالفم الملآن، بضرورة الالتفات إلى واقع البلاد الاقتصادي، وتجاهل أزمات المنطقة التي عادت على إيران بالتوجّس والضيق إذا صحّ التعبير، فقد هتف المواطنون الإيرانيون ذات مرة في إحدى مظاهرات طهران: لا غزة ولا لبنان، سأضحّي من أجل إيران..
وأمام العقوبات الاقتصادية المفروضة لم يجد مرشد إيران علي
خامنئي بُدّاً منها؛ سوى السعي وبكل الإمكانات إلى تأسيس الاقتصاد المقاوم الذي يعتمد على الاكتفاء الذاتي بدلاً من الاعتماد على عائدات النفط، وراح يطالب مجلس الشورى الإيراني بضرورة إصلاح هيكلية الاقتصاد في فترة زمنية ليست بالبعيدة، بل يقتصر جدولها الزمني على أربعة أشهر فقط، في حين اعتبر بعض الشباب الإيراني هذه الخطوة بطيئة جداً ولا تلبّي طموحاته التي تطالب بتحسين مستوى المعيشة في أسرع وقتٍ ممكن، ولهذا وصف الكثيرون الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها إيران مؤخراً بأنها احتجاجات على الاقتصاد بالدرجة الأولى، وذلك بعد أن خسرت العملة الإيرانية ستين بالمئة من قيمتها..
وأمام هذه المعضلة أقرّ بعض المسؤولين الإيرانيين بمسؤوليتهم، في حين راح البعض الآخر يلقي باللوم على مسؤولين آخرين. فوزير الطرق الإيراني محمد إسلامي، الذي عمل قبل ذلك في وزارة الدفاع الإيرانية، يدافع اليوم عن نشاط العسكريين في الاقتصاد، خلافًا لرغبة رئيسه حسن روحاني الذي هاجم نشاط العسكريين الاقتصادي لا سيما الحرس الثوري، وقال جملته المعهودة: "أينما تجمعت الثروة والسلاح والإعلام فإنها ستؤدي إلى الفساد"، وهي عبارة أثارت ردود فعل شديدة من جانب الصحف الأصولية المقربة من الحرس الثوري.
وليس الاقتصاد هو اللافت اليتيم للانتباه في ذكرى أربعين الثورة في إيران، بل هناك تحديات سياسية كبيرة تعكر الأجواء الإيرانية بعض الشيء، وعلى رأسها الانسحاب الأمريكي من
الاتفاق النووي، والذي يعتبر الحدث الأبرز على الساحة الإيرانية منذ تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مقاليد الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي وضع إيران في مأزقٍ حرجٍ لولا رفض الاتحاد الأوروبي الانصياع للقرار الأمريكي المتعلق بالملف النووي الإيراني، مما أدى إلى احتدام الخلاف السياسي بين قوتين سياسيتين من العيار الثقيل، الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي ممثلاً بعدة دول أوروبية، من بينها دول فاعلة ومؤثرة في الاتحاد، كفرنسا وألمانيا وبريطانيا قبل قرارها الانسحاب منه، وقد اتفقت هذه الدول على إيجاد آلية بديلة تنقذ إيران من مأزقها، عن طريق نظام التبادل التجاري خارج الهيمنة الأمريكية، والذي عبّرت إيران عن ارتياحها نوعاً ما، مع إبدائها تخوّفا محدودا من المماطلة الأوروبية في تنفيذ الوعود المبرمة مع إيران، إذ هددت إيران أكثر من مرة بأنها سوف تنسحب هي الأخرى من الاتفاق النووي إذا ما اتبعت دول الاتحاد الأوروبي سياسة المماطلة أو ليّ الذراع في تعاملاتها مع إيران.
ولعلّ خروج أمريكا من هذا الاتفاق، زاد من وطأة مشكلة الاقتصاد آنفة الذكر، وجعلت الاقتصاد الإيراني يواجه مرحلةً صعبة أنهكت خبراء الاقتصاد في إيران، وهم يبحثون عن البدائل التي لم يعثروا عليها حتى اللحظة...
ولهذا.. راح المسؤولون الإيرانيون في ذكرى أربعين الثورة، يزيدون من تصريحاتهم النارية ليعبّروا عن جام غضبهم إزاء ما تتعرض له بلادهم من تحديات وأزمات، بعدما قدموا عرضاً عسكرياً لبعض الأسلحة الإيرانية، لا سيما صاروخ ذو الفقار الذي يصل مداه 700 كم، وصاروخ قيام الذي يصل مداه 800 كم، حيث قال الرئيس الإيراني بأن إيران لا تنتظر إذناً من أحد لتطوير أسلحتها، وستواصل طريقها في تصنيع الأسلحة الفعّالة..
وعلى الصعيد السياسي، فإنّ ذكرى أربعين الثورة في إيران، تمر على وقع أحداث سياسية تعم الإقليم، وفي كل أزمة من أزماته تطالعنا وجهة النظر الإيرانية التي فرضت نفسها على المشهد السياسي هناك، سواء كان ذلك مُرضياً للمواطن الإيراني أم لا، فالحرب في سوريا كانت على أشدّها، ولإيران دور عسكري واضح هناك، ولطالما اختلفت في وجهات النظر مع كبرى الدول المؤثرة على الأزمة هناك، كروسيا وتركيا على سبيل المثال، رغم الغزل الناعم في كثير من الأحيان، إذ أنّ إيران وجدت نفسها وبسبب تدخلها المباشر هناك، في مواجهة مباشرة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي لم تتردد يوماً في استهداف المواقع التي تتموضع فيها القوات الإيرانية، الأمر الذي أزعج إيران كثيراً وجعلها تطالب بإيقاف هذه الاعتداءات، في حين أطلقت مرةً واحدةً عدة صورايخ باتجاه الجولان السوري المحتل رداً على استهداف سلاح الجو الإسرائيلي للأراضي السورية..
اليوم، وفي الذكرى الأربعين للثورة، إيران حاضرة في سوريا وفي العراق وفي اليمن وفي لبنان، وفي بعض الأراضي الفلسطينية، لكنّ اللافت للانتباه في جميع هذه المناطق الممتدة على جغرافية ليست بالضيقة، هو أنّ التصريحات الإيرانية تكاد تكون متشابهة بعد كل تساؤل يطرحه محللون عن سبب تواجد إيران بهذا الزخم هناك؛ لأنها تقول في كل مرة بأنّ وجودنا هناك هو بطلبٍ رسمي من الحكومة الشرعية هناك، وليس اصطداماً مع سياسة المملكة العربية السعودية التي تعتبر أشرس المنافسين لإيران في هذه المنطقة..