هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تأخّرت الحكومة الفرنسية في قراءة حراك الشارع إلى أن صدمها العنف،
وكان متوقّعا أن تختلف نظرة إيمانويل ماكرون إلى المشاركين في الاحتجاجات، فإذا به
يصفهم بـ «الغوغاء»، وبذلك التحق بالمصطلحات التي استخدمها أسلافه، أي أولئك الذين
طرح نفسه بديلا لهم. تفاجأ ماكرون بعمق حركة «السترات الصفراء» واتساعها، حتى إنه
عندما جامل أحد أفراد الشرطة ليشكره على تفانيه في مكافحة عنف المتظاهرين، ردّ
عليه الرجل بأنه يقوم بعمله، متابعا بأنه مثلهم متضرّر من قرارات الحكومة، ويشعر
بالأسى، لأنه يقمع أناسا يدافعون عن حقّه، إذ يطالبون بحقوقهم. وحين سمع شخصيا
ومباشرة هتافا غير مسبوق بـ «استقل» و»ارحل» أدرك أنه بات إزاء غضب أسود يتجاوز
مجرد رفض ضريبة جديدة ترفع أسعار الوقود.
كان
انتخاب ماكرون قبل أقلّ من عامين بمثابة «ثورة على النظام»، إذ شاركه الناخبون في
إعلان فشل الأحزاب التقليدية، يمينا ويسارا، وبالتالي في تهميشها، لمصلحة رئيس شاب
لديه أفكار جديدة ووسطية، ولا يبدو معنيّا بأي صراع أيديولوجي، بل مهموما بإصلاح
الاقتصاد، وتحسين معيشة الفرنسيين. لم يُرفع إلى مصاف الرئاسة فحسب، بل حصل الحزب
الذي أسسه غالبية اعتمادا على الثقة به. لكن الفكرة التي كانت معروفة منه ما لبثت
أن تأكّدت، وهي أن صعوده الاستثنائي في المشهد السياسي كان نتيجة تأييد مجموعة من
أصحاب المال والأعمال، وهي لم تكن لتتبنّاه لولا تفاهماتها معه بالنسبة إلى
خياراته الإصلاحية، وتعهداته بالحفاظ على مكاسبها وامتيازاتها. لذلك لم يطل الوقت
حتى بدأ ناخبوه المتحمسون يكتشفون خفايا سياساته، ويفترقون عنه، وصولا للنزول إلى
الشارع للتنديد بقراراته.
اعتقد
ماكرون أنه نجح في كسر الإضرابات العمالية، وفي مراوغة النقابات لتهدئتها من دون
أن يتوصل إلى وئام معها، غير أن المؤشّرات كانت دائمة المعاندة لتفاؤلاته
الإعلامية، واستمرّت همهمات الاستياء تصله لكنه لا يوليها الاهتمام الكافي. وعندما
دعّم قرار حكومته برفع أسعار الوقود أدرج ذلك في سياق إصلاحي يتعلّق بتنفيذ توصيات
معاهدة باريس للمناخ. أخطأ في الرهان على أن رصيده المعنوي كاف لتفهّم الرأي العام
التبريرات «المستقبلية» للضريبة، لكن تبيّن أنه استعدى الطبقة الوسطى وما دون، وهي
الكتلة الشعبية الأوسع. هذه المرّة خرجت النقمة من عمق المجتمع، من دون قيادة، ومن
خارج الأحزاب والنقابات، وبمعزل عن اليمين واليسار، حتى إن الوجوه البارزة لـ
«السترات الصفراء» نسبت العنف والشغب إلى متطرّفين حزبيين تسللوا متأخرين إلى
الحراك السلمي.
لم
يستجب ماكرون وحكومته لإلغاء ضريبة الوقود إلا لخشيتهما من تكرار العنف،
ولاعتقادهما بأن إخماد هذا الحراك يضعف الاحتجاجات، وإذا بمطالب القطاعات كافة
تعود مجدّدا إلى الواجهة. طلاب وأطباء وممرّضون ومزارعون وسائقو شاحنات وغيرهم
دعوا إلى التضامن معهم في مواصلة الاحتجاج، فما كان من الرئيس إلا أن استنجد
بالأحزاب والنقابات التي ساهم في تهميشها، ومن الطبيعي أنها لن تنجده، وإذا كانت
لا تطالبه بالاستقالة أو الرحيل فإنها تؤيّد الدعوة إلى انتخابات مبكّرة، وهذه
يمكن أن تحقّق النتيجة ذاتها، لأن السقوط المحتمل لحزبه سيجعله عندئذ أشبه بـ
«بطّة عرجاء» في منتصف ولايته. لم يكن ماكرون يتوقّع انفجارا اجتماعيا كهذا، ولم
يتوقّع له أحد أن يواجه مأزقا يضطرّه إلى مراجعات وتراجعات في معظم سياساته،
وبالتالي لفشل معلن، تحديدا في مجال كان يفترض أن يضمن نجاحه، ويكرّس مستقبله
السياسي.
عن صحيفة العرب القطرية