هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل الإجابة عن هذا التساؤل، لا بد من الصدع بموقف مبدئي، وهو أن كل
إعدام في إطار التنافس السياسي مرفوض، إلا أن يكون خيانة عظمى، أو في إطار ثورة
يصعب الوصول فيها إلى الحقائق. وإذا لجأت فئة أو جهة إلى الإعدام أو المطالبة به،
فلا يمكن أن يفهم ذلك إلا إقصاء للخصوم والقضاء على المنافسين، ومن ثم فإن منطق
الأشياء يقتضي أن تعالج الأمور المختلف فيها، وينظر فيها على أنها خلافات في إطار
التنافس على بلوغ الأفضل والأنفع من الأفكار والمشاريع والبرامج.
وما
تناقلته وسائل الإعلام عن تحديد تاريخ إعدام قيادات من مسجوني الإخوان المسلمين في
مصر، والمطالبة بإعدام الدكتور سلمان فهد العودة الذي يواجه 37 تهمة في القضاء
السعودي، لا يخرج عن محاولة الترهيب السياسي وإمعان في الإذلال لقوى سياسية حية
منافسة للسلطة القائمة…
لقد
تكلمنا في حديث سابق عن مشكلة الإخوان المسلمين والنظام المصري في مقالنا “رسالتي
إلى مصر..”، ونحاول في هذه الوقفة الإجابة عن الإجابة التساؤل: عنوان هذا المقال
“أ لهذا يطالب بإعدام سلمان العودة؟”.
ما
هي التهم الموجهة إلى سلمان العودة؟ وما حجمها؟ وهل هي تهم ترتقي إلى مستوى
المطالبة بالإعدام؟ ثم لماذا الإعدام بالذات؟ لماذا لا يكون المؤبد مثلا، أو ما
دون ذلك من التعازير؟ أهو لترهيب المعارضة أم أن الشيخ العودة ارتكب ما يوجب ذلك
حقا؟
وفي
تقديري لا يمكن أن تكون التهم الموجهة إلى مهتم بالشأن العام في المستوى الموجب
للإعدام..، إلا في حالة واحدة –كما أسلفنا- هي الخيانة العظمى، والعمالة للأجنبي
الثابتة، لا سيما عندما تكون التهم الموجهة للمتهم من قبيل: انه ينتمي إلى تنظيمات
تنشط في العلن ومعروفة برجالها وبرامجها ومشاريعها.. أو انه أنشأ تنظيمات لنصرة
النبي صلى الله عليه وسلم.. أو عدم الدعاء الكافي لوليّ الأمر.. أو حيازة كتب
ليوسف القرضاوي..، وإلى ما هنالك من التهم السلطوية الجاهزة..، وتزداد الغرابة
عندما يكون المتهم الذي يواجه حكم الإعدام من أمثال الدكتور سلمان العودة، الذي لم
يُعْرف إلا بوضوح الرؤيا، وصدق الخطاب، والفهم العميق لعالم الإنسان مؤالفا ومخالفا،
بحيث لما كان الناس يصنفون إخوانهم إلى خوارج ومرجئة وأهل ولاء وبراء وغير ذلك من
المصطلحات، كان الشيخ العودة يشكر أعداءه الذين كشفوا له منازعه الخاطئة، ومكامن
الخلل في منهجه، الذي ورثه عن أسلافه من أبناء بلده، وألف كتابا عنوانه “شكرا أيها
الأعداء”.
سلمان
العودة من الجيل الجديد للحركة الإسلامية، الذين يسمون “بجيل الصحوة”، تلقى تعليمه
كغيره من أبناء بلاده، في مدارس المملكة العربية السعودية، وبحكم تكوينه الشرعي،
تلقى العلوم الشرعية على الطريقة التقليدية في السعودية، وهي طريقة التوجه السلفي
الوهابي، ولكن انشغاله بهموم الأمة كشاب انفتح على العالم، وتأثره بالتيارات
الإسلامية والتجارب الوافدة إلى المملكة العربية السعودية، من البلاد العربية
الإسلامية، كتجربة الإخوان المسلمين، والأتراك والجزائريين وأهل الشام “سوريا
الأردن فلسطين لبنان”، جعل منه نموذجا آخرا غير تقلدي، فعَدَّل الكثير من القضايا،
التي تلقاها في مقاعد الدراسة، وكيفها وفق متطلبات الواقع، بعيدا عن التقليد
والخضوع للمألوف.. فقد كتب الشيخ العودة كتابا في بدايات نشاطه العام بعنوان “حوار
هادئ مع الشيخ محمد الغزالي” يرد فيه على كتاب الشيخ “السنة النبوية بين أهل الفقه
وأهل الحديث”، وذهب يرد فيه على المسائل الفقهية التي عالجها الشيخ، واحدة واحدة،
على طريقة المعالجة الفقهية، مخطئا في ذلك الهدف الذي كان يرمي إليه الشيخ
الغزالي، وهو سعة أفق الفقهاء في تناولهم للمسائل الخلافية.
ورغم
أن ذلك الرد كان في مستوى عالٍ من الأدب وإنزال الشيخ منزلته، إلا أن النَّفَس
الذي كتب به كان يغلب عليه الجو السائد يومها، وهو التشدد الحنبلي بقالبه السلفي
الوهابي، ولذلك ندم الشيخ سلمان على نشره لهذا بعد سنوات من تأليفه، وقال “تمنيت
لو أني لم أكتبه”.
وفي
سنة 1991 كان من بين 400 شخصية علمية إلى جانب عدد من أقرانه سفر الحوالي وعائض
القرني وناصر العمر، وقعوا على عريضة يطالبون فيها بإصلاحات سياسية وإدارية. وفي
سنة 1994 سجن ولم يفرج عنه إلا بعد خمس سنوات أي في سنة 1999. وبعد الإفراج عنه
قال عن تجربته في السجن تلك: “خمس سنوات من الاعتكاف عزلتني عن تأثير الجموع،
منحتني الحرية، نقلتني من الضيق إلى السعة، ومن الانكفاء إلى الحياة، نقلتني لرؤية
الوجوه الناصعة وقراءة الجانب الإيجابي لدى الآخرين”، بحيث اعتبر بعض الدارسين أن
الفترة التي قضاها الشيخ العودة في السجن كانت سببا في تحوله، والحقيقة أنه كان
قبل ذلك نزاعا إلى التجديد والثورة على المألوف، ومن ذلك مشاركته في إصدار عريضة
1991 التي طالب فيه الموقعون بالإصلاح السياسي والإداري؛ بل كان من قادة شباب
الصحوة المتأثرين بالأفكار الجديدة الدخيلة على المجتمع السعودي.
وطيلة
هذه المرحلة الأخيرة 1999/2017، لم يخنع العودة ويتخلى عما كان عليه بسبب السجن،
وإنما تفجرت طاقاته الفكرية أكثر، وتضاعفت إبداعاته التي لم تتوقف، فقد أنشأ موقع
“الإسلام اليوم”، وأعد الكثير من البرامج التلفزيونية، الاجتماعية والسياسية الناجحة،
كـ”حجر الزاوية”، و”وسم” و”ميلاد”….، التي بلغ عدد متابعي بعضها الـ22 مليون
مشاهد. أما وسائل التواصل الاجتماعي فهو دائم الحضور بها، ففي تويتر يتجاوز عدد
متابعيه 14 مليون متابع، أما فيسبوك فله من الأتباع أكثر من سبعة ملايين، إضافة
إلى وسائل التواصل الأخرى المباشرة وغير المباشرة.
ولما
اندلعت الأحداث في تونس سنة 2011 قال في برنامجه “حجر الزاوية”، “اليوم أصبحت تونس
نموذجا للتغيير الذي انطلق ولن يتوقف، وأن على المسؤولين أن يستوعبوا شعوبهم،
فالناس “يحتاجون إلى الاعتراف بذواتهم واحترام شخصياتهم، وتمكينهم من التعبير عن
مشاعرهم وتطلعاتهم دون تعسف أو إهدار مال”…، فتوقف البرنامج بسبب هذا الموقف
الجريء غير المعهود، وكذلك أصدر كتابا بعنوان “سؤال الثورة”، وأجاب عن الكثير مما
يجول بخاطر الإنسان من قضايا الثورة.. لماذا تكون الثورة؟ من يصنعها؟ كيف ينبغي أن
نتعامل معها حكاما ومحكومين؟ فصودر هذا الكتاب أيضا، فاضطر لنشره بواسطة الانترنت.
فمثل
هذا الخطاب وبهذه اللهجة.. غير معهود في المملكة العربية السعودية، ولذلك كان رد
الفعل بهذه القسوة التي يعاني منها الشيخ سلمان اليوم، سواء في طريقة سجنه وتغييبه
عن أهله أو بالأحكام التي يطالب بها النيابة العامة..
بهذه
الجرأة التي تبناها الشيخ سلمان العودة، اكتسب صدقية فائقة، وسلطان كبير على نفوس
الناس بسبب تفانيه في خدمة الأمة وصدق توجهه وقوة طرحه. فقد تلقى بمناسبة وفاة
زوجته وابنه هشام “عزاءات قطاع عريض من الشعب والعالم أجمع، كما استقبل تعازي من
قبل العائلة الحاكمة نفسها، وأفراد السلطة، كالملك سلمان، ومحمد بن نايف، ومحمد بن
سلمان.
ومع
بداية الخلاف مع قطر، أطلق الشيخ سلمان تغريدة إثر اتصالات هاتفية بين محمد بن
سلمان ولي العهد السعودي وتميم أمير قطر قال فيها: “ربنا لك الحمد لا نحصي ثناءً
عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. اللهم ألف بين قلوبهم لما فيه خير شعوبهم”. وعلى
إثر هذه التغريدة ألقي على سلمان العودة القبض وأودع السجن وهو يحاكم اليوم بـ 37
تهمة موجهة إليه.
إن
المطالبة بالإعدام تعزيرا، لرجل بهذه المواصفات، وهذا المستوى والمصداقية، لا يمكن
أن تفهم إلا في إطار التحولات التي تشهدها المملكة، والصراعات القائمة التي حيَّدت
-إلى حد الآن- المؤسسة الدينية المتمثلة في هيئة كبار العلماء، المجسدة في عائلة
آل الشيخ، والوريث الشرعي لهذه المؤسسة، هو التيار الذي حرص على بنائه الدكتور
سلمان العودة وإخوانه، من أبناء الصحوة، وهو المرشح لمواجهة التيار الليبرالي
المهيمن اليوم على مفاصل السلطة في المملكة العربية السعودية، وهذا ما يفسر الحملة
التي قامت بها السلطة في اعتقال هذه القيادات الإسلامية مع المعارضين المحتملين
للسلطة من داخل العائلة الحاكمة.
وخطورة
سلمان العودة والتيار الذي يتزعمه، تكمن في مصداقيته لدى الجماهير وقوته وصلابة
فكرته، وأصالة انتمائه الثقافي والسياسي للمجتمع السعودي، وكل ذلك يصب في غير صالح
التوجه الليبرالي الذي تتبناه السلطة السعودية اليوم..
لهذا
وجب المطالبة بإعدام سلمان العودة تعزيرا.. لعله يرتدع.. ويرتدع آخرون من دونه لا
يعلو منهم.
عن صحيفة الشروق الجزائرية