يصاب العاقِلُ منا بالحزن وهو يتابع ما يُرتكب في ربوع البلاد العربية وفي بعض مناطق العالم؛ من جرائم بشعة تُقترف باسم "الإسلام"، والإسلام "بريء منها براءة الذئب من دم يوسف". كما ينتابه الذهول وهو يُشاهد المتحدثين باسم الإسلام ويستمع إلى "فتاويهم، والحال أنهم لا يعرفون عن الإسلام غير القُشور.. وفي الوقت ذاته يتساءل هذا الإنسان عن مسؤولية فقهائنا المسلمين وواجباتهم الدينية في مواجهة هذا الوضع بالمعرفة المتنورة، والمحاججة السليمة البناءة، والتثقيف المنتظم والمُقنِع فهل من حق المتبصرين منا أن تُترك الساحة مُشرعة لمن هَبَّ ودبَّ؛ يتقوَّلُ بالإسلام ويعيث فيه فساداً؟ أم أن الإسلام الحقّ ينادي في المسلمين ضمائرَهم كي يعيدوا له حرمتَه، ويحموا قدسيتَه؟
لا شك أننا نعيش حقبةَ نكوص عَزَّ نظيرُها، ونحصد كل يوم نتائجَ تقصيرنا في إفسال روح الاجتهاد في ديننا ودنيانا، بل إن المرء ليحار وهو يرى ما يجري من حوله، ويستحضر بتقدير كبير ما قام به فضلاءٌ من علمائنا من جليل الأعمال؛ خدمةً لإشاعة قيم
الإصلاح والتحديث والتنوير في تراث مجتمعاتنا. أقول هذا وأنا استحضر أحدَ أعمدة هؤلاء العلماء "الإمام محمد عبده" (1849 - 1905)، وأكثرهُم عمقا في الدعوة إلى الإصلاح والتجديد.
يشهد كل الذين اهتموا باجتهادات محمد عبده، وكتبوا عن إنتاجاته الغزيرة، أنه امتلك رؤيةً تأصيليةً لمفهوم الإصلاح الشامل، وأن الإمام لم يكن داعيةً، بقدر ما كان صاحب مشروع ومنهج متكاملين لإعادة امتلاك التراث والاجتهاد في مظانِّه كي يستقيم ويقوم بواجباته لرفعة الأمة، وإمدادها بمصادر القوة. والحقيقة أن منهج الإمام وعطاءه
الفقهي والمعرفي لم يكونا مُوجَّهين لذوي السلطة أو من يقومون مقامهم، بل كانا مُعدَّين لخدمة المجتمع، وتنوير أفراده. ومن هنا تظهر المكانةُ التي حظي محمد عبده بالنسبة لمن سبقه أو جاء بعده من المصلحين. لذلك، لم يكن الإمام ناصحاً على شاكلة منتجي كتب الحكمة السياسية أو "الأدب السلطاني"، بل كان مُعبِّئاً للمجتمع، ومسانِداً لمطالبه في أن يعيش أفرادُه متحررين من ازدواجية الاستبداد في الداخل (السلطة السياسية) والخارج (الاحتلال). ألم يؤصِّل لفكرةَ "المدنية الإنسانية"، المستقاة من أصول الإسلام، كي يُقنع المسلمين بأن لهم حقوقاً يتوجب عليهم الدفاع عنها، وممارستها، وصيانتها من أي مغتصب كان في الداخل أم في الخارج؟
ينطوي منهج محمد عبده على الكثير من الجوانب التي شكلت مناط رؤيته، ودوائر مشروعه الفكري الإصلاحي، وسيكون مجحفا الإلمام بها كلها في مثل هذا العمود. فاجتهادات الإمام توزعت بين التأصيل المعرفي للإصلاح والنهضة، والعمل على تجديد الفكر الإسلامي، والانخراط في معترك الحياة السياسية واقتحام ميادين الإصلاح ومؤسساته. وعلاوة على كل ذلك، وهذا ما نود التوقف عنده، ظل محمد عبده، الفقيه الأزهري، مؤمناً بالعقل، ومرجحاً له، ومنفتحاً على غيره من العلماء والمجتهدين، بغض النظر عن أديانهم وِملَلهم.. يستمع إليهم، ويحاورهم، بل ويحاججهم ويستفيد من مَعينهم الفكري والمعرفي، ولم يكن قط متعصباً، ولا منتصراً لدينه وتراثه بغير حق، بل كان يروم الحقَّ للدفاع عن دينه وتراثه.. فأين نحن من هذا الفقيه الأزهري، الذي لم يكن يتردد في الصَّدع بالحق، والجهر بما يراه سليما شرعاً؟ فمن أقواله المأثورة ذات العلاقة، تأكيده على أن "كل منازل العقل صعود"، في إشارة إلى إعمال العقل، وتشديده على أن "الانتقاد نفثة من الروح الإلهية، ولولا النقد لما شب علم عن نشأته"، في انتصار واضخ لممارسة فضيلة النقد، ونبذه التقليد، بقوله: "إن القرآن نعى على المقلدين؛ ذاكراً لهم بأسوأ مما ذكر به المجرم".. القائمة في الواقع غنية وطويلة.
إن الحاجة ماسة لاستحضار روح هؤلاء المصلحين، وفي مقدمتهم الإمام محمد عبده، في وقت غدت الغلبةُ فيه للضوضاء والافتراء على الدين، والإضرار بأمة تمتعت يوماً بالعزة والرفعة، وسلطة الكلمة. والحقيقة أن الحاجة ماسة ليس لاستحضار أعمال هؤلاء العظماء، بل إعادة تمثّل ما كرسوا حياتهم من أجله، أي المشروع التنويري والقيم المتضمنة فيه، وتوظيفها توظيفا راشدا، بُغية إعادة روح المناعة والقوة إلى مجتمعات أمتهم، عسى أن تخرج من ضيق الحال إلى سعة المآل. ثم إن خروج منطقتنا من العُسر الذي ألمّ بها، والنكوص الذي طال منظومة قيمها، وأضر بقدرتها على امتلاك كفاءة التأثير الإيجابي في شعوبها والعالم من حولها، لن يتحقق دون إقامة قطيعة ثقافية مع القيم التي دبّت في كل مفاصل مجتمعاتها خلال العقود الأخيرة، وحولت دينها، وهو صاحب رسالة تاريخية كبيرة، إلى موضوع اتهام وتشكيك ونقد وتبرم منتظمين ودائمين. ومع ذلك، لا بد من الإقرار بأن فسح المجال للاجتهاد والتجديد هو أولا وقبل كل شيء إرادة واقتناع وإصرار، يتصدر حركة إنجازه العلماء المتبصرون، المسلحون بنزاهة الكلمة وطُهر الفعل والممارسة، المتعففون عن جاذبية المال والجاه وسلطتهما.. القادرون على الجهر باستقلاليتهم، ونزاهة كلمتهم.