ثمة مجموعة من
الأحكام المُسبقة غير السليمة عن عملية بناء الدساتير، أو الحديث عن صياغتها، وهي في
أغلب الظن أحكام، إما نابعة من سوء فهم وعدم دراية، أو كلام يُعتقد بصوابه، بينما
هو إدراك يُراد به باطل. من ذلك، أن كتابة الدساتير مسألة تقنية ، يمكن إسنادها لخبراء
يجيدون اللغة، فيولون صباغتها بالدقة والحبكة المطلوبتين. وعلى منوال هذا الفهم
نفسه، يظن البعض أن كتابة دستور لا تحتاج إلى كثير من الاجتهاد، بل هي في حاجة إلى
قدر من الخبرة والدراية، والقدرة على المقارنة، والاقتباس والاستخلاص مما هو متوفر
من الدساتير وهي كثيرة. والحقيقة أن بناء الدساتير، كما حصل في التاريخ أعمق
وأبعد من كل هذا. لذلك، غالبا ما تنطوي الدساتير حين الانتهاء من صياغتها، وتأخذ
طريقها إلى الإقرار، على تباينات في المعاني والدلالات، و تناقضات في فهم الحلول
التي يتوخى المشرع الدستوري تضمينها في وثيقة الدستور، مما يعرض وثيقة الدستور إلى
نوع من سوء تطبيق أحكامها، أو يجعلها عرضة للتفسير والتأويل غير السليمين، بل
المُضرين ببنية المشرع الدستوري ومقاصده،
لاسيما إذا كان التأويل في غير يد سلطة القضاء ومؤسساته ذات العلاقة.
بيد أن التصنيفات
التقليدية المعروفة في الفقه الدستوري، تميز بشكل عام بين ما أسماه " موريس ديفرجيه"
: "الدساتير القوانين" ، " و" الدساتير البرامج". وإذا
كانت الأولى (الدساتير القوانين)، موسومة بالاختصار والاقتصاد في عدد الفصول
والمواد، ومتميزة بحبكة الصياغة ودقتها، وحبلى بالقواعد والمبادئ الدستورية، فإن
الثانية (الدساتير البرامج)، تأتي خلافا لذلك، كثيرة الفصول والمواد، ذات
صياغة عامة، مفعمة بالتفاصيل والتدقيقات، ومفتوحة على الاختلاف، ومن ثم معرضة
للتفسير والتأويل.
ليس قصدنا من هذا
التمييز إلصاق صفة الغموض بالدساتير البرامج ونزعها عن الدساتير القوانين، لأن
الغموض يحدث أن يطبع النوعين معا، ما نود الوصول إليه، وتأكيد خطورته، هو
آفة الغموض التي تسِم الدساتير عموما، وتعرضها للضرر حين يُشرع في إعمال أحكامها
وإدخالها حيز التنفيذ. ويزداد المشكل تفاقما حين تنفلت وظيفة التفسير والتأويل من
يد القضاء النزيه والمستقل، وتتولاها جهات أخرى غيره، بغير حق ودون سند دستوري. لكل
ذلك، كشفت تجارب شعوب كثيرة كيف كانت سيرورات كتابة الدساتير في بلدانها طويلة،
شاقة ومعقدة، كما أبانت كيف يسّر الحوار المفتوح الواسع والمسؤول، سُبل كتابة
دساتير واضحة المبنى والمعنى، والحال أن أفضال الحوار لم تُفض إلى الحسم في
الاختيارات الكبرى للتعاقد الاجتماعي الذي يروم الدستور إقراره في مبادئ وقواعد
فحسب، بل فتح المجال للتوافق على معجم الدستور، وصيغه اللغوية، والمعاني التي
أعطاها الفرقاء والفاعلون لمفاهيم الدستور، وتعابيره.
فهكذا، إذا توخينا
النظر إلى ما يجري في بعض البلدان العربية في ضوء ما سبق بيانُه، نلمس درجة التوتر
الحاصل حول لغة كتابة الدستور وطبيعة صياغته، وهو، بكل المقاييس، توتر حول المعاني
والدلالات والاختيارات. ففي مصر مثلا، ابتدع " العسكريون" في أعقاب
"ثورة" 25 يناير 2011 ما أسموه "المبادئ ما فوق دستورية"،
وحين اكتسح " الإخوان " السلطة كتبوا دستوراً [ 2012]، ينهل الكثير من
معجم أدبياتهم وخطاباتهم، وتسعى "لجنة الخمسين" منذ شهور إلى إعادة
" التوازن" إلى كتابة الدستور وصياغته. والملاحظة نفسها تبرز بجلاء وقوة
في سيرورة الدسترة في تونس، حيث اشتد الصراع حول لغة الوثيقة الدستورية ومعانيها،
وأبدى المجتمع التونسي إصرارا قويا على أن تكون كتابة الدستور وفية لتطلعات حراك
الرابع عشر من يناير 2011. ومن تابع مسيرة الدسترة الجديدة في هذا البلد، يلمس كيف
شكلت نضالات المجتمع بكل مكوناته، قوة ضغط، وسلطة مضادة، لمراقبة المجلس القومي
التأسيسي وهو يكتب الدستور التونسي الجديد، بل من يقرأ الصيغة الأولى لمشروع
الدستور ويقارنها بالصيغة الثالثة الأخيرة، يُدرك حجم التعديلات والتنقيحات التي
أدخلها المجتمع المدني الحي في تونس على عمل مجلسه القومي التأسيسي المنتخب،
لاسيما في المفاصل الدستورية ذات الصلة بالاختيارات الكبرى، من قبيل طبيعة الدولة
والنظام، ومكانة الدين، والهوية، والحقوق الأساسية والحريات، والمرأة، والضمانات
الدستورية لحماية المجتمع أفرادا وجماعات.
ففي المغرب انتقلنا
من دساتير متوسطة الحجم إلى دستور كثير الفصول (180ف)، وإذا اعتمدنا تصنيف "
ديفرجيه"، نكون قد انتسبنا إلى ما أسماه " الدساتير البرامج"، أي
الوثائق الدستورية الموسومة بكثرة المواد، والمتميزة بالتفاصيل والتدقيقات. أما
آفة الغموض، فقراءة فاحصة لوثيقة 2011 ، تُظهر أنها لم تخل من هذه الظاهرة، وأن
لغة كتابتها (جمل ومفردات) حمّالة لأكثر من معنى، ومفتوحة على التأويل. لذلك، شكلت
عملية استكمال تأثيث الوثيقة الدستورية بوضع القوانين التنظيمية مسألة بالغة
الأهمية والخطورة في الآن معا، لما لهذا الصنف من القوانين من وظائف استراتيجية في
نزع الغموض عن الدستور، وإعطاء روح بناءة لأحكامه، وفتح الباب واسعا أمام الفهم
السليم لمضامبنه ومعانيه. ثم إن نزع الغموض عن الدستور لا ينتهي عند استكمال كتابة
الدستور بصياغة قوانينه التنظيمية، بل يبقى مستمرا ومتجددا بالتأويل الذي يطال
بانتظام الوثيقة الدستورية بفعل الإعمال والممارسة. وإذا لم نبق جميعا، دولة
ومؤسسات ومجتمعا، يقظين ومستحضرين أن التأويل المطلوب في زمن الدستور الجديد (2011) هو التأويل الديمقراطي وليبس غيره، فإننا سنساهم في جعل الغموض يلتف على عُنق الدستور،
ويُفقده تاليا القدرة على أن يُتحول لتعاقد اجتماعي جديد فعال، حقيقي، ومساهم في
تطور البلاد.