قضايا وآراء

استفحال الداء في النداء.. والعيون على ما بعد 2019

نور الدين العويديدي
1300x600
1300x600

نجح تكتيك رئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد بامتياز.. عرف كيف يكسر الحصار، الذي ضرب حوله، وكيف يوجه التناقضات السياسية لصالحه.. اختار وزيرا للداخلية مقبولا من الجميع، ونجح في انتزاع موافقة كبيرة في البرلمان على الوزير الجديد هشام الفوراتي، محبطا كل مساعي خصومه لمحاصرته وعزله.


أول ما تحقق من أهداف مباشرة تمكن الشاهد من إرغام خصمه ومنافسه الأبرز على قيادة حزب نداء تونس، حافظ قايد السبسي على الاندراج ضمن خيارات رئيس الحكومة، إذ اضطره مرغما على أن يدفع من بقي من أنصاره في البرلمان للتصويت للوزير الجديد، بعد يوم واحد فقط من إعلان الكتلة الخاضعة لنجل الرئيس في ندوة صحفية أنها لن تصوت لصالح الوزير، داعية رئيس الحكومة للرحيل هو وفريقه الحكومي.


ولكن بعد التصويت بـ148 صوتا للوزير الجديد، ويكفيه 109 أصوات فقط ليحتل مكانه، ضمن الفريق الحكومي، خرج رئيس الحكومة منتصرا، وصار بوسعه أن يرد على منتقديه بأنه ليس مدعوما فقط من حزب وحيد هو حركة النهضة.. إذ باتت حكومته اليوم مدعومة من طيف واسع من الكتل البرلمانية ومن نواب من أحزاب شتى.. حتى حزبه نداء تونس الذي يطالبه بالرحيل وجد نفسه مضطرا لدعم الوزير الجديد في البرلمان.

استفحال الداء في النداء


التصويت الأخير لوزير الداخلية الجديد لا ينبئ بتوقف الصراع على ملكية "شقف" نداء تونس، ولا حتى بهدنة فيه.. فالصراع الآن على أشده داخل النداء، بين الابن السياسي للرئيس المؤسس الباجي قايد السبسي (رئيس الحكومة، الذي تولى المنصب بفضل اختيار الرئيس له)، وبين ابنه البيولوجي حافظ قائد السبسي.. وفي كل يوم جديد ومناسبة مهمة يتقدم رئيس الحكومة على حساب نجل الرئيس، والرئيس ينظر عاجزا عن مناصرة ابنه، بعد أن تفتتت كتلته البرلمانية، وتراجع نفوذه على حزبه، وخرجت من الحزب معظم قياداته، وخسر الانتخابات البلدية الأخيرة بفارق كبير عن منافسه حزب حركة النهضة.


تحتد المنافسة بين الرجلين وتزداد شراسة، في انتظار موعد الفصل النهائي: مؤتمر جامع للحزب يختار قيادة يدخل بها سباق الانتخابات الرئاسية والبرلمانية للعام 2019. لكن الراجح أن هذا المؤتمر الجامع لن يقع. فنجل الرئيس لن يقبل أن يفرط في التأشيرة القانونية للحزب، وهي اليوم أهم ورقة بيديه، وقد لا يقبل أن يجتمع مع غريمه في ذات المؤتمر. وقد يجد الندائيون أنفسهم أمام مؤتمرين وحزبين يحملان نفس الاسم: نداء تونس نسخة يوسف الشاهد، ونداء تونس نسخة حافظ قايد السبسي.

سيناريوهات المستقبل


لا أحد يعرف ما قد يقع غدا ولا ما تخفيه الغيوب.. والساحة الآن حبلى بخيارات عديدة ممكنة:
-يمكن، نظريا على الأقل، أن يراجع الجميع أنفسهم، ويقررون التهدئة والحفاظ على وحدة الحزب. ويتم عقد مؤتمر جامع للنداء يخرج بقيادة جديدة موحدة تحافظ على قدر معقول من التوازن السياسي مع حركة النهضة ليستمر البناء الديمقراطي للبلاد.


-يمكن أيضا أن يستمر الصراع بين الشاهد وحافظ، وهذا هو الراجح. وقد يعمد الشاهد إلى حملة اعتقالات لـ"فاسدين" كبار من رجال الدولة العميقة، ومجموعة أخرى من رجال الأعمال والمسؤولين الفاسدين، ثم يستقيل هو وحكومته، ويبني حملته لانتخابات 2019 على مقاومة الفساد، ويطالب الرأي العام بتفويض كاف يمكنه من الانتصار على الفاسدين.. وهذا من السيناريوات المغرية جدا.


-يمكن أيضا لرئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي أن يعيد ترميم حزبه، وأن يستعيد له العديد من القيادات البارزة، التي خرجت منه خلال السنوات الأخيرة، حتى يكون قادرا على منافسة رئيس حكومته المتمرد عليه ومنافسة غريمه التقليدي حركة النهضة.


-كما يمكن أن تستمر حالة الشتات والصراعات الداخلية.. وساعتها إما أن تتأخر انتخابات 2019 إلى موعد مجهول، وإما أن تجري في أجواء إحباط وقلق في أوساط من يوصفون بالحداثيين والعلمانيين.. وهو قلق قد يهدد المسار الديمقراطي جملة.

حيرة النهضة ومخاوفها


في ظل تفاقم أزمات حزب نداء تونس تجد حركة النهضة نفسها، ظاهريا، في وضع مريح. فخصمها يتآكل ويتفتت. وإذا استمر الأمر على ماهو عليه الآن أو تفاقم، فإن فوزها في انتخابات 2019 سيكون كبيرا مثل فوزها في بلديات 2018، أو ربما أكبر.


لكن النهضة تدرك جيدا حجم تعقيدات السياسة، وتداخل مصالح اللوبيات والدولة العميقة مع مصالح الخارج، بل حتى مع مصالح ما يبدو معارضة لأجهزة الحكم، من قوى يسارية، تبدو من خلال الخطاب معارضة جذرية للنظام القائم، لكنها في الواقع لا تعارض حقيقية إلا النهضة والإسلاميين، وهي مستعدة برلمانيا وعبر جناحها النقابي (الاتحاد العام التونسي للشغل) للتعاون خلف الستار مع كل خصوم النهضة من الدولة العميقة ومن أهل الداخل والخارج لإفشال الإسلاميين إذا ما استلموا الحكم من جديد كما حصل في سنوات 2012 و2013.


النهضة يغريها ضعف الخصوم وتشتتهم، ولكن يخيفها الفراغ من حولها. ولذلك فهي مشتتة بين رغباتها وبين حساباتها العقلانية. وهي على الأرجح ماضية مع حساباتها على حساب رغباتها. فالنهضة تدرك أن عودتها مجددا لتصدر المشهد السياسي، مع غياب منافس قوي قادر على أن يوازن قوته بقوتها، سيجمع من كل فجاج السياسية خصومها ليتكالبوا عليها مجددا، وليعملوا على إفشالها في الحكم كما فعلوا من قبل.. وفشلها لن يقف هذه المرة عند خروجها من الحكم.. إنه قد يطال بالتعطيل أو الضرب الماحق المسار الديمقراطي جملة، وهو ما تتوقاه النهضة ولا تقبل بحدوثه مهما كانت الأحوال.

2019 وماذا بعد؟


ماذا بعد 2019 هو السؤال الذي يشغل التونسيين جميعا. إجراء الانتخابات في موعدها من شأنه أن يرسخ المسار الديمقراطي أكثر. لكن التونسيين لا يحتاجون الديمقراطية وحدها.. يحتاجون معها النمو الاقتصادي وكبح جماح القروض والتضخم وغلاء الأسعار.. يحتاجون الرفاه والاستقرار ودوران عجلة الاقتصاد وإصلاح التعليم ومحاربة الفساد والبطالة.. وهم يخشون، إن استمر الحال على ماهو عليه، من ديمقراطية عقيم، توفر الحرية ولكن يغيب عنها الاستقرار والرفاه.


العقلاء من التونسيين يرغبون أن يروا الأحزاب المختلفة تصل إلى حلول لمشاكلها، وأن تجري منذ اليوم حوارات اجتماعية وسياسية وبين الخبراء والسياسيين، تسبق انتخابات 2019، حول الكيفية المثلى التي تُحكم بها تونس بعد ذلك التاريخ، بما يجعل الديمقراطية التونسية ديمقراطية راسخة ولودا، تجمع بين الحرية والاستقرار والرفاه والكرامة.. فإلى أي حد يتمكن التونسيون من فعل ذلك؟ المؤشرات الحالية لا تنبئ بخير كثير.. لكن اليأس ممنوع على أهل الثورة الوحيدة، التي عرفت كيف تحافظ على نفسها رغم كل الصعاب.

0
التعليقات (0)