هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لو أعددنا مجلداً يحمل فى طياته كلام السيسى منذ أن قام بإنقلابه الغاشم فى يوليو/ تموز 2013 لامتلأت صفحاته عن آخرها ولاحتاجنا بمثله وما أوفى! آخر هذا الكلام وليس بأخره بالطبع، ماقاله فى مؤتمر الشباب معلقاً على هاشتاك #أرحل_يا_سيسى" بقى أنا عايز اخرجكم من العوز تقوموا أنتم تطلعوا هاشتاك أرحل ياسيسى كده يبقى ليا حق أزعل ولا لأ؟ لأ فى دى بقى أنا أزعل قوى"!!
تصفيق حاد من الحضور وأنت لا تعلم عن أى شئ يصفقون، هل يصفقون لغضب السيسى مع أن المفترض أن يغضبوا لغضبه وهم أتباعه وخاصته، أم يصفقون للهاشتاك ذاته مع أن المنطقى أن يغضب لتصفيقهم هذا ويعنفهم عليه؟! ولكنه مجرد تصفيق والسلام لأى رئيس على أى كلام يتفوه به، أحدى موروثات جمال عبد الناصر التى تنتقل جيناتها من جيل لآخر وتجيد الشعوب العربية إستخدامها ببراعة شديدة وهى سر نكبة الأمة وتخلفها! ولعل أشهر تصفيق ونقيضه فى الوقت ذاته كان فى خطاب لعبد الناصر بعد إنفصال سوريا عن الوحدة مع مصر ققال عبد الناصر أنه أمر بإرسال قوات إلى سوريا لمواجهة الإنقلاب العسكرى هناك فوقفت الجماهير وصفقت بحرارة بالغة ثم عاد سريعاً قائلاً "ولكنه رأى أنهم سيقاتلون أخوة لهم ولايصح أن يتقاتل العرب بعضهم بعضاَ" فعادوا وصفقوا له بنفس الحرارة السابقة! جماهير لا تعرف على أى شئ تصفق ولماذا تصفق ؟ المهم التصفيق للزعيم المبجل الملهم!
ماعلينا نعود لمؤتمر السيسى للشباب وهو أحدى بدعه التى إبتدعها منذ توليه سدة الحكم فى مصر، وهذا هو المؤتمر السادس، يجمع عدد من الشباب من أبناء الصفوة فى المجتمع وأعالى القوم يرتدون أفخر الملابس ذات الماركات العالمية ويتعطرون بأزكى العطور، شباب لا يمثلون الشباب المصرى الكادح ولا يمثلون الأحرار الذين فى المعتقلات، شباب "كيكى" كما قال لهم وهو يضحك بشدة " تركبوا العربيات وكيكى ومش كيكى طب غلى البنزين وماتقلقشى" فما كان منهم إلا أن شاركوه فى هذه المضحكة أو قل المسخرة!
ينفقون على هذه المؤتمرات العشرات من الملايين من الجنيهات فى السفر والإقامة حيث أنه كان يقيمه فى شرم الشيخ لمدة يومين أما هذا المؤتمر فقد أقيم فى جامعة القاهرة وقد تكلف 30 مليون جنيه كما صرح أحد المختصين، فى تهذيب الأشجار والطلاء وإقامة الخيم المكيفة والأكل والمشروبات إلخ ثم يدعى بعد ذلك أننا دولة "فقيرة فقيرة قوى" ودولة عوز حسب قوله بل من المضحكات المبكيات أنه قال فى هذا المؤتمر "إنه مستعد يأكل وجبة واحدة من أجل أن يبنى البلد" وهو الذى يتحرك بموكب هائل من السيارات والمركبات البخارية وتظلله الطائرات فى السماء لحراسته وهو القائل أيضا فى نفس المؤتمر أنه مستعد ينزل مع الشباب وينظف الشوارع!!
ولنعد للهاشتاك ونتساءل هل إطلاق هاشتاك بسيط فى الفضاء الإفتراضى قد هز كرسى الزعيم وأغضبه حقاً؟! لقد صدق الشباب هذه الأكذوبة ووقعوا فى الفخ وأعادوه مرة أخرى وأحيوه من جديد حينما أحسوا بمدى تأثيره وفاعليته ليعود ويتصدر من جديد الهاشتاك عالمياً، وحدثت حالة من الحشد الإلكترونى ابدعوا فيها من النكات الساخرة والأغانى و(القلش) عليه فى وسائل التواصل الإجتماعى..
ونعود للسؤال الجوهرى هل فعلاً الهاشتاك أغضب السيسى وهو الذى قال من قبل مراراً وتكراراً " لو عايزنى أمشى همشى فى ثانية مش محتاج مظاهرات ولاحاجة أنا مش هقعد غصبن عنكم"؟
إذن ما الذى جد وجعله يغضب؟ هو يعلم تماماً كمية الغضب المكتوم فى صدور المصريين جراء رفع الدعم عن السلع الأساسية والطاقة والمحروقات وما نجم عنه من غلاء الأسعار بشكل جنونى مما كدر حياة المصريين وضاقت بهم سبل العيش الكريم فلم يجد وسيلة لتفريغ هذا الغضب إلا من خلال هذا العالم الإفتراضى فقد أغلق أمامه كل السبل فى العالم الواقعى من وسائل التعبير والحرية بعد أن تم تكميم الأفواه وإغلاق كل نوافذ الإعلام الحر من صحافة وتليفزيون وأصبح الإعلام مجرد بوق للنظام وما يريد أن يصدره للناس ولإنه لايزال يعيش فى زمن عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم عندما أنشأوا وزارة للإعلام أطلقوا عليها وزارة "الإرشاد" فقد أصبح الإعلام فى عهده مجرد إرشاد أى إرشاد الشعب إلى ما يحبه وما يريده متناسياً أن الناس تغيرت وأنه يخاطب أجيالاً جديدة قد نشأت فى ظل عالم جديد حدث فيه ثورة هائلة فى عالم الإتصالات والمعلومات جعلت من العالم قرية صغيرة وحق المعرفة هو حق أساسى من ضمن حقوق الإنسان، وأصبح كل شئ متاح أمامه بسهولة بلا كلل أو تعب ..
لذلك أستبعد أن يكون السيسى قد غضب من هشتاك #أرحل_ياسيسى بل ربما يذهب بى الأمر لأن أفترض أن تكون أحدى أجهزته المخابراتية هى أول مَن أطلقته فى الفضاء لإمتصاص غضب الجماهير وكرد فعل محسوب أبعاده فتلقفه الشباب بنوايا حسنة وعملوا على تفعيله ففرغوا شحنة الغضب داخلهم فى بالونات فى الهواء أطلقوها فى الفضاء الإقتراضى بدلاً من أن يُفرغوها فى مظاهرات على أرض الواقع ولكى يعطيهم إحساس بإنتصار مزيف هاهو يعلن لهم عن غضبه منهم وقد كان له ما أراد ففرحوا وهللوا وأعادوا الهاشتاك مرة أخرى متصورين أنهم بذلك يغضبوه أكثر! بينما هو تأكد أن رد فعلهم لن يتجاوز ماسُمح به والذى لن يهز شعرة من أركان نظامه الإنقلابى الذى يحكم الشعب بالحديد والنار!
هذه الأساليب من إلهاء الشعوب فى أمور تافهة أو قضايا فرعية أو فضائح لمشاهير، معروفة ومتبعة من قديم الأزل فى كل مخابرات دول العالم الثالث وأول من علمها لهم الدول الإستعمارية كبريطانيا التى إستعملتها مع الدول التى كانت تحتلها...
هذا الغضب السيساوى قد ألهى الناس عن إحالة أوراق 75 مواطناً مصرياً للمفتى (وهو إجراء روتينى صورى متبع قبل صدور حكم الإعدام) فى قضية هزلية عُرفت إعلامياً بقضية فض إعتصام رابعة والتى صدرت فى نفس ذاك اليوم! إنشغل الناس عن حكم الإعدام ولم يتوقف عنده إلا القلة القليلة أما الكثرة فقد كانوا فى ملهاة غضب السيسى إلكترونياً! ولم تحدث أى ردة فعل حقيقية حتى من هذه القلة وطبعا غابت المنظمات الحقوقية والإنسانية لأن المحكوم عليهم بالإعدام ينتامون للتيار الإسلامى الكارهين له ولن أقول المعادين له رغم أنه الأصح
اختيار توقيت الحكم مع تزامن الذكرى الخامسة لأبشع مجزرة فى تاريخ مصر المعاصر (مجزرة رابعة العدوية) مع غضب السيسى أختير بدهاء شديد فقد ضرب عصفورين بحجر واحد، فلقد استطاع أيضا تفريغ شحنة الغضب من ذكريات رابعة المؤلمة التى لاتزال عالقة فى الصدور ولايزال أنينها مكتوم فى القلوب المحترقة لتستكمل بتلك المذبحة للأحياء الباقين من معتصمى رابعة لتسيل دماؤهم من فوق منصة القضاء ولا أحد يبالى!
ولكى تستكمل الملهاة الدرامية ذروتها فلابد من إدخال عنصر المفارقة فى البناء الدرامى، فكما حكم بالإعدام على الضحايا الأبرياء والمجنى عليهم فلابد من مكافأة القاتل فى نفس التوقيت! فقد منح ترقية عسكرية إستثنائية لبطل مذبحة الحرس الجمهورى حيث كان رئيساً للحرس الجمهورى وهو الذى قبض على الرئيس الشرعى "محمد مرسى" وعين مؤخراً وزيراً للدفاع، ليسدل الستار على مشهد مسيء بل مهين لقيم وشرف العسكرية المصرية، بأن طلب من وزير الدفاع الصعود للمنصة وتم استبدال الكنافات أو الرتب القديمة بالجديدة من فوق كتفيه بواسطة شابين صغيرين إحداهما فتاة! وهذا تقليد لم يحدث فى تاريخ مصر العسكرى أن يقلد الكنافات العسكرية مدنيين بل وفى العالم أجمع لأنه خارج الأعراف العسكرية إلا فى الكيان الصهيونى الذى يقوم مدنى وامرأة باستبدال الكنافات فى تتويج قادتها لأنه كيان تقوم فكرته على العسكرية وكل المقيمين فيه عسكريين تحت الطلب.
تناقلت وسائل الإعلام العالمية هذه الأساءة وتنكر لها معظم قيادات وجنرالات جيوش العالم واعتبروها إعدام لشرف العسكرية فى مصر!
ولكن قبل أن ندخل فى قلب هذه الملهاة كان هناك مشهد تمهيدى تم إعداده بأن أفرجت الولايات المتحدة الأمريكية فجأة عن المعونة المتجمدة لديها منذ عهد أوباما، بعد زيارة رئيس المخابرات المصرى لها ومقابلته للمسؤولين هناك! فهل كانت أحكام الإعدام هو الثمن الذى دُفع لفك الحظر عن المعونة؟ وهل كان هذا أرضاء لترامب المعادى للإسلام وللإخوان المسلمين بصفة خاصة، وهل كان هذا القربان الدموى لإثبات أننا نسير فى نفس الطريق وبذات النهج وعلى نفس الهدى؟! أسئلة ستكشف عنها الأيام مثلما كشفت عن دور إدارة أوباما فى إنقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013 فى التقرير الذى كتبه الكاتب الأمريكى كيركباتريك ونشرته مجلة نيويويك تايمز مؤخراً وتفضل موقعكم الموقر بترجمته ونشره...