هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هل كنا بحاجة لدليل جديد على الدعم الأمريكي للاستبداد بالشرق الأوسط؟ وهل كنا ننتظر كشفا جديدا لتأكيد براغماتية سياسة واشنطن وتحللها من أي أبعاد أخلاقية؟ في الحقيقة فإن الإجابة عند غالبية الشعوب العربية هي "لا" كبيرة، ومع ذلك فإن ما كشفه التحليل الذي نشرته "نيويورك تايمز" للكاتب ديفيد كيركباتريك يكتسب أهمية لأنه يقدم معلومات تؤكد المؤكد عند تلك الغالبية، وترد على "تهويمات" إعلام و"نخب" الثورة المضادة!
ظل الإعلام المنتمي للثورة المضادة في مصر وغيرها يردد أن إدارة أوباما "دعمت" الربيع العربي، بل وصل الأمر عند بعض أنصار نظرية "المؤامرة" وخصوصا عند جماعة "الممانعة" ليقولوا بأن الثورات العربية الشعبية هي من صناعة أمريكا، خصوصا بعد أن وصلت الثورة إلى سوريا وهزت أركان نظام الأسد، ولكن المعلومات التي نشرتها "نيويورك تايمز" تؤكد أن أوباما وبعض مستشاريه فقط كانوا يريدون ترك الحرية للشعوب العربية أن تقرر من يحكمها، فيما كانت غالبية رموز الإدارة تدفع باتجاه دعم الاستبداد، ومباركة الانقلاب العسكري في مصر، والتحالف مع العسكر لتحقيق أهداف الولايات المتحدة في المنطقة.
كان أوباما "ضعيفا" أمام إدارته، وأصبح مع مستشاريه في "جزيرة معزولة" كما يصف مستشاره "بن رودس"، واستطاعت الدولة العميقة في واشنطن أن تفرض أجندتها عليه، وتواصلت مع قيادات العسكر في مصر منذ آذار/ مارس 2013 للتأكد من قدرتها على التدخل لإزاحة الرئيس مرسي، والحفاظ على استقرار مصر. بالطبع فإن الاستقرار المقصود هو الحفاظ على حكومات غير منتخبة، تستطيع واشنطن التعامل معها بآليات الماضي التي يمكن وصفها بالتبعية، وتستمر كالمعتاد بالحفاظ على تفوق وأمن الاحتلال الإسرائيلي.
لم يتغير الأمر بين إدارتي أوباما "الضعيف" وترامب "الشعبوي"، فالفرق الوحيد هو أن أوباما لم يكن قائدا لجوقة التأييد للاستبداد في المنطقة بل كان خاضعا لها، فيما يقود ترامب بنفسه وبتصريحاته و"تغريداته" هذه الجوقة، التي احتفظ رموز منها بمواقعهم الحساسة في الإدارة بعد استلام ترامب للرئاسة.
ما تكشفه هذه المعلومات وتؤكده هو أن الولايات المتحدة والغرب عموما لا يزال يتعامل مع الشرق الأوسط بنظرة استعمارية استشراقية، فهذه المنطقة بالنسبة لهم هي "بئر" بترول لا أكثر، وشعوب "غير جاهزة" للديمقراطية، لأنها قد تنتخب حكاما مؤهلين مع الوقت لأن يتمردوا على معادلات التبعية للغرب وللاحتلال، والأهم من ذلك أنها منطقة تمثل خطرا محتملا "للأيدولوجيا الإسلامية" التي تمثل أرقا للغرب.
وعلى ذكر الأيدولوجيا الإسلامية، وتيارات "الإسلام السياسي"، فإن تقرير "نيويورك تايمز" المشار إليه يكشف "أكذوبة" دعم واشنطن للإخوان المسلمين، وهي أكذوبة اجتمع عليها للمفارقة الأضداد من رموز تيار الثورة المضادة ورموز المحور الإيراني السوري الذين وجدوا في دعم الإسلاميين للثورة السورية دليلا على تبعيتهم للأجندة الأمريكية!
وخلافا لأكذوبة الدعم الأمريكي للإسلام السياسي، بات واضحا الآن أن رموز إدارتي أوباما وترامب تحكمهم أيدولوجيا استعمارية استشراقية، ترى في كل من يحمل أيدولوجيا إسلامية خطرا محتملا، وهي لا تفرق في نظرتها هذه بين تيارات إرهابية تتبنى العنف لتحقيق أهدافها وبين تيارات ترفض العنف وتنخرط بالانتخابات والعمل السياسي والآليات الديمقراطية. "كلهم يسبحون في بحر واحد" كما يقول مايكل فلين مستشار ترامب السابق ورئيس الاستخبارات العسكرية في عهد أوباما، و"كلهم شيء واحد" كما ينظّر جون كيري وزير خارجية أوباما!
ولعل في كشف/ أو تأكيد هذه النظرة الأمريكية لتيارات الإسلام السياسي رسالة لأصحاب هذا التيار، وهي أن عليهم أن يسعوا لإرضاء شعوبهم، وتحقيق أهداف بلدانهم ومصالحها الاقتصادية والقومية، بدلا من الانشغال بتقديم رسائل ومواقف لإرضاء أمريكا، لأن واشنطن لن تصدقهم ولن تقبل بهم حتى لو انتزعوا جلودهم، فهم في بحر واحد مع "تنظيم الدولة" حسب الرؤية الأمريكية!
ثمة أكذوبة أخرى يفضحها تقرير "نيويورك تايمز"، وهي استقلالية القرار عند الجيش المصري، والترويج بأن قرار الانقلاب كان مصريا خالصا للاستجابة "للإرادة الشعبية"، إذ أن قيادات الجيش بدأت منذ آذار 2013 بالتنسيق والتلويح بالانقلاب للقيادات العسكرية والسياسية الأمريكية، والتي بدورها باركت هذا القرار، وأعطت الضوء الأخضر له بتصريحات مباشرة من وزير الدفاع آنذاك تشاك هيغل ووزير الخارجية جون كيري.
لم يخرج تقرير "نيويورك تايمز" المهم إذن عن ما تؤمن به غالبية الشعوب العربية، ولكنه فضح السياسة المصلحية النفعية لواشنطن عند بعض الحالمين بسياسة غربية "أخلاقية" تنتصر للديمقراطية وحقوق الإنسان، وكشف تواطؤ العسكر في واشنطن والقاهرة للانقلاب على أول تجربة عربية كان يمكن أن تتطور مع الزمن لتصبح ديمقراطية ناجزة تخدم المواطن العربي وتحقق أولوياته، لا أولويات النخبة الحاكمة والمصالح الأمريكية والإسرائيلية.