المفاوضات جزء من حرب طويلة، وهي تتطلّب الكثير من الصبر ومعرفة
دقيقة بمواطن القوة والضعف لدى الخصم من جهة، وتقدير عميق للإمكانات والمخزون
الفعلي والاحتياطي لقدراتك. أي خطأ في الحسابات والتقدير يُلحق بالمفاوض خسائر قد
يعجز عن تعويضها، فيضطر إلى تقديم تنازلات أين منها الخسائر في معركة بالأسلحة.
النظام
الإيراني يفاوض حاليا بالواسطة ويأمل أن يفاوض مباشرة سرا أو علانية. هذا النظام
يملك الخبرة والصبر في التفاوض، وهو نجح سابقا وتوصّل إلى اتفاق معظم نتائجه
لمصلحته... يكفي النظام انه أخذ ضوءا اخضر أو على الأقل اصفر للتمدد إلى جواره الإقليمي،
وصولا إلى الأبعد في اليمن، وهو يقدّم نفسه صانعا للسلام ومضحّيا بالرجال والعتاد
لتنفيذ هذه المهمة "الإنسانية" التي لا ينتظر تعويضا عنها سوى سعادة
الشعوب التي مزقتها الحروب ودمرت الأخضر واليابس عندها. في كل مفاوضات خاضها
"النظام الخامنئي" استثمر فيها ما يملكه للحصول على ما يرغب به، دون
الاهتمام بالكلفة سواء التي يدفعها من مخزونه أو مما يملكه المؤمنون بخطابه أو
العاملون معه.
حاليا
"النظام الخامنئي" يبدو قلقا وحتى خائفا من المرحلة القادمة؛ لأنه على
يقين أن الرئيس دونالد ترامب ليس فقط مفاوضا صعبا نجح حتى في ترويض نظام كوريا
الشمالية، وهو أكثر الأنظمة تصلّبا في العالم، ولكنه أيضا يكرهه ويريد أن يلوي
"ذراعه" ليقول للأمريكيين: "باراك أوباما أعطاه وأنا أخذت
منه"، لذلك يعمل هذا النظام على جمع كل أوراقه حتى يفاوض من موقع ثابت أن لم
يكن قويا.
من
الصعب جدا معرفة ما حصل في "صلالة" العمانية بين الوزيرين جواد ظريف
ويوسف بن علوي. لكن من المؤكد انه جرى تبادل جدي للأفكار والمعلومات سمح للرئيس
حسن روحاني بإتمام جولته في سويسرا والنمسا بنجاح نسبي، خصوصا متى جرى قياس ذلك
على ميزان الدعوة الأمريكية إلى مقاطعة ايران. في جميع الأحوال، جرت مفاوضات خصوصا
مع الرئيس السويسري. مصدر إيراني كشف أن الرئيس السويسري حمل عرضا أمريكيا إلى
الرئيس روحاني مختصره "اعترف بإسرائيل ولَك كل العقود التي ترغب بها". أهمية
هذا التسريب الذي يشبه كثيرا ما قاله "النظام الأسدي" سابقا لتأكيد
مواقفه الوطنية التي سمحت له بتدمير سوريا على رؤوس شعبها، انه توجد عروض متبادلة،
أي مفاوضات جدية.
جزء
أساسي من المفاوضات كما تطمح إيران إليه هو إقناع أوروبا أولا ومن ثم أمريكا ثانيا
بأنه يجب حفظ موقعها وحتى ما تراه "حقوقها" الإقليمية، أي في سوريا
وبالتالي لبنان والعراق واليمن. الرئيس روحاني لم يُخفِ أبدا انه اجرى في جنيف
وفيينا "مباحثات جيدة حول قضايا المنطقة، وحول اليمن حيث هدفنا النهائي إحلال
الأمن والسلام". من الواضح أن روحاني يعرف كيف يقدم نفسه صانعا للأمن والسلام
تاركا مهمة الحرب والتصعيد لغيره من أركان النظام...
حتى
الآن، لم تُنتج المفاوضات جديدا ومنتجا، لذلك يجري التصعيد بحيث يخال العالم أن
الحرب الأمريكية ـ الإيرانية واقعة بين ليلة وضحاها. اللافت أن التصعيد يجري على
وقع اقتراب موعد قمة ترامب ـ بوتين حيث الحذر سيد المواقف. ترافق هذا التصعيد
محاولة ناجحة لإظهار إيران موحدة في مواجهة واشنطن.
لأول
مرة يتخطّى الخطاب التصعيدي الإيراني كل "الخطوط الحمر" ومن قِبل
المعتدلين وتحديدا روحاني، حتى يقدم النظام نفسه كتلة متحدة ذات موقف وطني في
مواجهة "الأمريكي البشع". الرئيس روحاني هدّد:
* "أن أمريكا ستدفع ثمنا باهظا لو فرضت العزلة على الشعب الإيراني".
* "أن المواجهة ستكون في إقفال مضيق هرمز اذا لم نُصدّر نفطنا".
هذا التهديد غير ممكن وغير واقعي ويعرف روحاني اكثر من غيره أن اكثر من ربع صادرات
النفط والتجارة الدولية يمر عبر باب المندب، ولذلك لا احد يقبل بإقفاله سواء
واشنطن أو روسيا والصين واليابان (ليس مستبعدا أن إلغاء رئيس الوزراء الياباني
زيارته لطهران جزء من الرد على هذا التهديد). وقد اكتمل هذا التهديد الرئاسي
بتهديد "رجل الحرب" الجنرال قاسم سليماني الذي قال بوضوح: "أن لم
يتم تصدير نفط إيران فلا ضمانة لتصدير النفط من المنطقة كلها". وأردف سليماني
هذا التهديد بـ "تقبيل يد روحاني لتصريحاتكم الحكيمة والهامة". بهذا جرت
إعادة اللحمة إلى "الأجنحة الممزقة" للنظام ولو مؤقتا.
إيران
بكل أجنحة النظام فيها تعرف أن الحرب مع الولايات المتحدة الأمريكية مستحيلة، لأنه
لا يمكنها مواجهة "النسر الأمريكي"، وفي الوقت نفسه فإن "الكاوبوي
الأمريكي" لن يخوض حربا ضدها لأنه لا يريدها، خصوصا انه قادر عبر الحرب
الاقتصادية والناعمة على فرض اكثر ما يريد وما يمكنه. لذلك المواجهة مفتوحة حتى
نهاية الصيف وعلى وقع القمة البوتينية ـ الترامبية...