ثلاثة أيام من الحرب
في مدينة الحديدة، نجحت خلالها القوات الموالية للحكومة والمدعومة من التحالف في
توجيه ضربات مؤثرة للتواجد العسكري للحوثيين ووصلت إلى المطار الدولي الذي يمثل
أهم منشأة مدنية وعسكرية استراتيجية في الأطراف الجنوبية للمدينة.
إنه إنجاز يكفي لأن
يتمسك التحالف، استناداً عليه، بخيار الحسم العسكري في هذه المدينة ما لم تحدث
مفاجأة قد تَعدُ بها الزيارة التي يقوم بها حالياً مارتن جريفيث إلى صنعاء لإقناع
الحوثيين بتسليم مدينة الحديدة سلمياً، وهي مهمة من المتوقع ألا تكون سهلة.
فالسيد مارتن يعرف
جيداً أن سلفه إسماعيل ولد الشيخ أحمد فقد منصبه على خلفية فشله في تسويق مقترح
مثالي لتسوية وضع الحديدة عبر إخضاعها لإدارة مستقلة، حتى أن موكبه تعرض لإطلاق نار في إشارة تحذيرية تلاها إعلان
من شركاء الانقلاب باعتبار ولد الشيخ وسط غير مرغوب فيه.
تختلط المواقف السياسية
على نحو مثير حول هذه المعركة الحاسمة، التي تمثل إحدى أهم محطات الحرب في اليمن،
على نحو يكشف بأن التحالف والغرب لم يكونا على خلاف حول مصير الحوثيين طيلة الفترة
الماضية من مسيرة الحرب الأهلية في اليمن، وهزيمة الحوثيين كما يراد لها أن تكون
بعد استعادة الحديدة، لم تكن فيما مضى هدفاً أساسياً من أهداف التحالف على الرغم
من الخطاب الديماغوجي الذي أصم به إعلام التحالف آذاننا واستهدف من خلاله استثارة
النوازع المذهبية وتحوير المواجهة لتتحول من صراع سياسي إلى صراع مذهبي.
لذا يرقب المرء على
هامش معركة استعادة الحديدة من الحوثيين، ما يشبه المفاصلة بين الأطراف الإقليمية
والدولية التي اتفقت ذات يوم على تمكين ميلشيا الحوثي من السيطرة على الدولة
اليمنية وصممت لها اتفاق السلم والشراكة الذي أجبرت الأحزاب الكبيرة على توقيعه،
تحت طائلة التهديد بفرض العقوبات الدولية عليها.
وكان اللافت
حينها التأييد المنقطع النظير الذي أظهرته
القوى الدولية والإقليمية الرئيسية لذلك الاتفاق، الذي مثَّلَ عنوانَ مرحلةٍ جديدة
احتلت فيها الفوضى واجهة المشهد وادخر كل طرف -عدى المغدور بهم- قدراً كافياً من
الثقة بأن الحوثيين بعد أن تسلموا مفتاح صنعاء لن يكونوا سوى سيف تُحَزُّ به رقابُ
الإصلاحيين ثم يعود إلى غمده.
لكن الحوثيين أصروا
على الاستخدام العنيف للمفتاح الذي وُهب لهم من المستويات العليا في الدولة
اليمنية، ومن جيشها وأمنها، التي ارتهنت ولا تزال للإملاءات الإقليمية والدولية،
وإلى جانب هذا الارتهان كانت أيضاً تتسق
مع التصورات والمواقف السلبية التي ترسخت لديها حيال ثورة التغيير.
وحين كان الحوثيون
يوجهون إهانات لرمزية الدولة ومكانتها عبر احتلال المكاتب والمرافق السيادية في
صنعاء، كان أولئك الرهط من القادة والساسة الواثقين جداً بالمهمة النبيلة للحوثيين، يضحكون ملء أشداقهم ويتشفون من المشهد المرتبك
لقوى الثورة الذين سُلبت منهم كل الخيارات الممكنة للدفاع عن حقهم في العيش ضمن
الدولة التي توافق عليها الجميع.
كان بإمكان السعودية
أن تواصل التعامل بالقدر نفسه من الحذر حيال الخطوط الحمراء التي رسمها الغرب حول
صنعاء والحديدة على وجه الخصوص، لكنها هذه المرة قررت تجاوز هذه المحاذير واختارت
الحسم العسكري في الحديدة، بغض النظر عن النتائج.
وعذر الرياض الذي بات مقبولاً بما يكفي من
الجانب الأمريكي، لكي تمضي قدماً في خطة تحرير الحديدة. فثمة يقين بأن الصواريخ
التي تضرب العمق السعودي مكرسةً تكافؤ رعبٍ لا يليق بالهيبة العسكرية للرياض.
لذا قررت الرياض أن سد
هذه الثغرة الخطيرة التي تمثلها الحديدة بات أمراً ملحاً. لكن اللافت أن الإمارات وليس الرياض، هي من
يتصدر مشهد الحرب في الحديدة وهي من يقود هذه المعركة وبارجتها الحربية هي التي
تلقت أول صاروخين مضادين للسفن أطلقهما الحوثيون مع بدء المعركة يوم الخميس الماضي.
أما لماذا تمضي الإمارات
قدماً في معركة استعادة الحديدة دون أن يساورها القلق، ولماذا تتصدر التحركات
الدبلوماسية واللقاءات مع الإدارة الأمريكية، وهي من أصدر مهملة الثلاثة أيام
للحوثيين، وتتحمل عبء المواجهة السياسية والأخلاقية مع العالم الغربي فالأمر في
تقديري يعود إلى عقدين من الشراكة المتينة في المهام القذرة التي أقامتها أبوظبي مع واشنطن، إلى حد سَمحَ لها بأن تتصرف هذه
المرة وفقاً لأولوياتها وأولويات شريكتها الكبرى في تحالف حرب اليمن المملكة
العربية السعودية.
من الواضح أن أبو ظبي
تُسدي الرياض جميلاً بتصديها لمشهد الحرب الشائك في الحديدة في ظل ما يتم استدعاؤه
من مخاوف مبررة، لكن مبالغ فيها، حول التداعيات الإنسانية، وعينها إلى جانب إسداء
هذا الجميل على الميناء نفسه الذي سيكون بوسع أبوظبي المقايضة مع الرياض بشأن
الهيمنة المستقبلية عليه، متكئة على خليط من الحلفاء المحليين الذين لا يقفون على
أرضية سياسية مشتركة، لكنهم مستعدون لكي يكونوا أدوات مشابهة لتلك التي أقامت أبوظبي
حكمها ونفوذها عليهم في المحافظات الجنوبية.
إن أهم ما نتطلع إليه
هو نهاية سريعة وقليلة الكلفة من الناحية البشرية والإنسانية، لنفوذ الحوثيين في
مدينة الحديدة ومينائها وفي سائر محافظة الحديدة والساحل الغربي.
ومع هذا الأمل ثمة مخاوف تساور الجميع بشأن
مسار الأحداث في مرحلة ما بعد اندحار الحوثيين، على الرغم من الانفتاح المفاجئ
الذي عبر عنه التحالف حيال القيادة الشرعية اليمنية، وهو انفتاح لا يكفي لتبديد
الشكوك بشأن نوايا التحالف، في ضوء الجهود التي تبذل لإعادة تسويق الفريق السياسي
المبعثر لصالح ومواقفه، وانتشال خطابات صالح نفسه ركام الحرب الخاطفة التي خاضها
ضد الحوثيين في صنعاء قبل أن يلقى مصرعه ويخرج من المشهد السياسي اليمني إلى الأبد.