هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يتمكن أي جيل فني من الإساءة إلى فن “الدراما التليفزيونية” في
مصر، كما تمكن الجيل الراهن من خلال العروض ( الكارثية) الموغلة في الانحطاط والتحريض، أعني العروض الدميمة المتمرغة في القبح، التي نراها في
دراما هذا الموسم، ولم يتمكن مجموعة من الفنانين والمخرجين والفنيين، من محو
لحظات التألق والعز لـ “أدب التمثيلية التليفزيونية” الذي كانت بلادنا تباهي به يوما، كما تمكن
هذا الجيل الفني الضحل “ المسيس” حتى العظام، والمدفوع لمباشرة هذا (العك) مقطوع الصلة بالفن أو حتى المنطق، بأوامر
مباشرة بطريقة مفضوحة تماما، أثرت على
الأطقم الفنية المشاركة في المسلسلات، ودفعت بها _ تحت ضغط الأوامر _ إلى ( العجلة والاستسهال) لتمرير “الرسالة
المطلوبة” بأي ثمن، وكأنها تخاطب بلهاء ألغوا عقولهم، ووضح لكل ذي عينين، أن
الدراما هذه المرة، جاءت جزءا عضويا من (الإعلام التعبوي)، الذي يكرس الرسالة الإعلامية العامة ذاتها، بصب أطنان من التحريض و الاستباحة وإيغار الصدور، دون
تحسب للنتائج الخطيرة لهذه الرسائل الفنية _ أو بالأدق “غير الفنية” _ الملغومة !
لا يعرف الذين دخلوا
الاستوديوهات هذا العام، لتصدير هذه اللوحات الشائهة، والغذاء الفكري والفني
المسموم، أن مصر تحمل على كتفها كالشارة الراقية، رصيدا من أدب الدراما التليفزيونية، هو الأعرق في المنطقة العربية _ بل والعالم الثالث _ حيث يمتد هذا الرصيد إلى عام 1960، حين ظهر الشريط رقم(1) لأول
تمثيلية تليفزيونية في مصر والعالم العربي، بعنوان : “جهاز المعلم شحاته”، وكانت
من اللون الاجتماعي المحبب للجميع، ومنذ هذا التاريخ، توالت المسلسلات والسباعيات والسهرات التليفزيونية، فضلا عن المسرحيات التليفزيونية، بعد أن تأسس
في حاضنة التليفزيون ست فرق مسرحية، وشكلت هذه الوجبة الدرامية الرفيعة، مائدة
اجتماعية شعبية للمصريين، يتحلق حولها الجميع في المواسم وغير المواسم، كما شكلت
هذه الوجبة الفنية نفسها، الجزء الأكبر من(القوة الناعمة) المصرية، التي صاغت
الوجدان العربي، و ماهت مع أشواقه وطموحاته، وكانت _ بحق _ نافذة للثقافة
الرفيعة، والقضية الهادفة، وترجمانا حقا للوجع المصري والعربي، الذي لم يكف
عن التغني بأنشودة الحريات والعدالة الاجتماعية.
وفي قاطرة الأمجاد الرفيعة
للدراما التليفزيونية، مر الرائعون : “عبد المنعم الصاوي” و “محفوظ عبد الرحمن” و “صفاء عامر” و “محمد جلال عبد القوي”، حيث وصلت رحلة القاطرة ذروة تألقها مع أمير
الدراما التليفزيونية الراحل “أسامة أنور عكاشة” ( 1941 _ 2010)، الذي تحولت الدراما
التليفزيونية _ على يديه _ إلى نص مرئي مهني، مفعم بالبهاء و الجمال، مكلل بعشرات
الرسائل الحضارية والوطنية الرفيعة، منذ دفع إلى الشاشة بعمله الأول “سباعية
الإنسان والحقيقة”، مرورا بـ “الشهد والدموع” و“رحلة أبو العلا البشري” و “عصفور النار” و “المشربية” و “زيزينيا”، ووصولا إلى “ليالي الحلمية”، بأجزائها
الخمسة، وقد تحولت في الوجدان المصري إلى ملحمة متكاملة، ترصد التاريخ والتحولات
الاجتماعية والسياسية و الفكرية، برهافة وقوة وحس وطني/ عربي، فبدت الشوارع
المصرية والعربية، خالية تماما من المارة في أوقات عرض دراما عكاشة، وهو
استفتاء حقيقي على الروعة والقيمة والتماهي الكامل مع الوجدان الشعبي المسكون
بالطموحات والأوجاع، ولا عجب أن يقول “عكاشة” عن الدراما التليفزيونية، وهو
الذي هجر حياة الوظيفة تماما وتفرغ للدراما منذ عام 1982: هي (أي الدراما)..
بحر التجربة الإنسانية الذي لا تحده شواطئ!” ولا جدال أن رصيد عكاشة، الأجمل والأضخم، هو الذي دفع بأمير الرواية العربية “نجيب محفوظ” أن يصف دراما عكاشة بـ “العمق والشمول”. ولا أدري موقف “محفوظ”، لو امتد به العمر، ورأى هذه الفواصل
الراهنة المنتسبة زورا إلى “فن الدراما”،
والمخلوطة بكل أشكال الاستهتار والقبح والعفن الفني والأخلاقي؟!
عرض حتى الآن أربعة وعشرون عملا دراميا _ هكذا يفترض! _ بعد أن خرج بشكل مفاجئ من السباق قبل
رمضان بساعات خمسة أعمال درامية، لا ندري
أسباب استبعادها، وهل كانت هذه الأسباب رقابية أم سياسية أم فنية لضعف النصوص؟!
لكن المعروض حتى الآن، وبعد الحلقات الأولى ينذر بكارثة فنية وأخلاقية، متكاملة
الأبعاد، وكان البطل الحقيقي في معظم الأعمال، ما يسمى بـ “أخطاء الراكور” حيث بدا
الفنيون والمخرجون، وكأنهم يعانون من غيبوبة، ومثالا للغيبوبة والحماقة
الفنية، رأينا في مسلسل “بالحجم العائلي” الممثل “يحيى الفخراني” وهو ينتظر أحفاده في الفندق (دون لحية) وعندما
خرج ليصافحهم بعد دقائق الانتظار، عانقهم وقد بدت على وجهه “لحية بيضاء” كبيرة! ( متى نبتت ؟!) وفي مسلسل “أبو عمر المصري” سبق الصوت الصورة في خطأ تقني فاضح في مشهد اليخوت
البحرية! ويترسخ انطباع الجهل التاريخي، حين يعرض المسلسل أحداثا ( تسعينية)، ويجري الحديث في هذه الأجواء التسعينية عن “حادث مركز التجارة العالمي” ( الذي وقع
عام 2001)! وفي مسلسل “رحيم” ظهر الممثل “ياسر جلال”، عقب خروجه من السجن، وكان
واضحا _ حتى للكفيف! _ أنه تم تركيب لحية إضافية تدلت من لحيته النابتة، بشكل لا
يخطئ فيه تلميذ صغير، ولا أقول” فني محترف”! وفي مسلسل “كلبش 2” ظهر الممثل “أمير كرارة” وهو يمسك السلاح بطريقة مضحكة ومقلوبة وخاطئة تماما، ويفترض أنه من “العمليات
الخاصة”! كما ظهرت زوجة “سليم الأنصاري” في العمل نفسه، وهي حامل، وقد امتدت
بطنها إلى الأمام عشرة أمتار _ بماكياج
مضحك حد البكاء _ حتى علق أحد الظرفاء قائلا : “ربما كانت حاملا ً في ديناصور!" وصور المسلسل الفيوم
العظيمة، و أنها” مجموعة قبائل”!! وفي مسلسل “عوالم خفية” بطولة الفنان “عادل
إمام”، ظهرت أمام الكاميرا _ بتقريب الصورة جدا _ نسخة من صحيفة “الأهرام” وقد
كتب عليها: “تأسست عام 2010.!!” الأهرام تأسست عام 2010 أيها المفكرون
النابهون؟! أما “المسخرة” الحقيقية، المهينة لكل تاريخ مصر الفني، فهي مسلسل “نسر الصعيد”، ففي مشهد هش يظهر الممثل “محمد رمضان” بثلاث حسنات على وجهه، وفي مشهد آخر تظهر نفس الشخصية له بـ “حسنة واحدة” وكأن المشاهد فاقد الذاكرة،
أو يمتلك ذاكرة سمك! أما مسخرة المساخر، فكانت مشهد قفزه في الماء من أعلى الكوبري،
حيث بدا الطريق خاليا من البشر _ وقد كان منذ ثوان يكتظ بالبشر! _ وفتح المخرج “كادر اللقطة” _ طبعا دون قصد! _ فظهر صناع المسلسل، وهم يمنعون المارة من
المرور على الكوبري، ليتمكن الممثلون من إكمال اللقطة!! إنها السوأة الفنية التي
افتضحت في كل شيء، فأظهرت لنا واقع “مسوخ”، لا صلة له بآباء الدراما التليفزيونية
العظماء في مصر!
ويمكن _ بخلع الأضراس
_ أن نتقبل هذه الأخطاء الفنية والمهنية غير المسبوقة في تاريخ الاستوديوهات
المصرية على الإطلاق، كما يمكن أن نتقبل، على مضض بعصر الليمون على أنفسنا،
الأفكار المستهلكة الساذجة، والمادة الخام الضحلة والجهل الفاضح بوقائع وأحداث تاريخية
يعرفها أصغر طفل في مدرسة، لكن هل من الممكن _ بالسهولة نفسها _ أن نتقبل واقع “الرسائل التحريضية واللاأخلاقية المسفة غاية الإسفاف”؟! هل يمكن تقبل “الحوار
الجنسي”، بالإيحاءات المكشوفة، بين “وفاء عامر” و “محمد رمضان” المتجرد من ملابسه في “نسر الصعيد” بهذه الوقاحة في شهر يكلله “القرآن” و“الصيام”
؟! وقد اضطرت الرقابة لحذف الكلمة المعبرة عن “العضو الذكري” في المشهد، فتطوع
الأسطورة “محمد رمضان” بنشر المشهد كاملا على صفحته، بعد استعادة الكلمة
المحذوفة رقابيا؟! وهل يمكن أن نتقبل المشهد التحريضي، المفعم بالغل والحقد
الأسود، في مسلسل “فوق السحاب”، حين ظهر الشيخ الملتحي، وهو يجلد الفتاة
الرقيقة على ظهرها، ويعد معنا إحصائيا _ بصوته الأجش _ “جلدة جلدة” ليستوفي عدد
الجلدات إلى ثمانين، بما يجعل المشاهد يفكر جديا في التملص من الإسلام نفسه،
لينجو من هذا السحل العلني؟! وهل يمكن تقبل حوار الضابط مع المتهم في مسلسل “عوالم خفية”، وهو يصف الشيوخ المسلمين _ عن بكرة أبيهم! _ بأنهم “يوزعون قراريط
الجنة كما يريدون!” ثم يستدير لتهديد المتهمين بالحبس الانفرادي مع “أسد جائع” وكأننا نعيش في غابة بلا قانون؟! وهل
يمكن أن نتقبل مشهد “محمد رمضان” _ بالزي الرسمي الممثل للسلطة _ وهو يضع مواطنا تحت قدمه لمدة دقائق، ويخاطب المحاور أمامه وكأنه يطأ صرصورا بلا حقوق، ثم ينحني على المواطن المختنق
تحت حذائه، ليدس يده في جيبه ويخرج حافظة نقوده، وينتزع منها ثلاثمائة جنيه، في
أخس أشكال الاستباحة وإدارة الظهر لأية إنسانية أو حقوق؟! وهل يمكن قبول مشهد “أحمد بدير” في “سلسال الدم”، وهو يصف الانتخابات النيابية، التي تلت ثورة 25
يناير، بأنها انتخابات صنعها “الزيت والسكر والأموال”، بينما أطبقت كلمة
المراقبين _ في الداخل والخارج _ على
نزاهتها الديمقراطية، بقطع النظر عن أية أخطاء حدثت بعد ذلك ؟! وقبل هذا كله: هل
يمكن _ بسهولة _ أن نتقبل أخطر الوقائع في دراما هذا العام، حين عرض التليفزيون
مسلسل “أبو عمر المصري” للقاص المعروف والدبلوماسي “د. عز الدين شكري فشير”، وهو مسلسل مأخوذ من
روايتيه: “مقتل فخر الدين” و“أبو عمر المصري”، حيث فوجئ المشاهدون بإزالة اسم
المؤلف ” د. عز الدين شكري” من تتر المقدمة والختام، وكأن العمل “لقيط” بلا مؤلف،
أو حكر خاص بـ “السيناريست” ؟! لا لشيء إلا لأن المؤلف محسوب على ثورة 25 يناير، أو
له رؤية سياسية مختلفة؟! وإذا كان المؤلف من وجهة نظر من ارتكب هذه الجريمة
الفكرية، سيئا أو مغرضا _ فيما يرى من
حذف اسمه بدم بارد من غلاف عمل يملكه بحق
الملكية الفكرية_ فلماذا اخترنا عمله الأدبي دون غيره ليكون مسلسلا، وما الذي
يجبرنا على التعامل مع نصه مادمنا لا نريده منذ البداية، أو نتشكك في نياته
السياسية والثورية؟! نحن بإزاء واقعة استباحة لا يمكن تمريرها
أخلاقيا، بحيث نحرم مبدعا من نسبة عمله الأدبي، إليه وكأنه غير موجود بين
أظهرنا؟! ولو تم تصعيد هذه الواقعة، لشهدت بلادنا _ بكل أسف _ حملة تأنيب مهينة في أروقة
”اليونسكو” ؟! ومما زاد الطين بلة أن هذا المسلسل، تسبب في إغضاب أشقائنا السودانيين، حين أظهرهم وكأن بلادهم هي حاضنة المعسكرات المسلحة الخاصة بالمتطرفين، حيث ظهرت العربات بـ “اللوحات السودانية” في رسالة استفزاز تسببت في حملة إعلامية غاضبة في الخرطوم؟! إنها خلطة الضحالة والتحريض الأسود التي أساءت إلى المواطنة والقيمة والولاءات العربية والإسلامية، وسحبت من رصيدنا كثيرا، حتى أوشك رصيد “القوة الناعمة” على النفاد لآخر قطرة؟! أما آن صوت الحكمة بعد لنعيد ترتيب الأوراق؟!
المصريون المصرية