هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
اقترحت رئاسة الشؤون الدينية التركية على المسلمين خلال شهر رمضان بما أسمته (الصيام الإلكتروني)، أي محاولة التقليل من استخدام الإلكترونيات في هذا الشهر الكريم.
وهي دعوة تنطلق من واقع نعيشه بشكل أصبح مرضيا للأسف، فكلما ظهرت وسيلة جديدة للتواصل الإلكتروني سارع الناس لاستخدامها، بل والإفراط فيها، وغابت مجموعة من القيم من المجتمعات، بسبب هذه الوسائل الحديثة، التي بدل أن توفر علينا الوقت فيما لا يعوض من الأمور المادية، أصبحنا نستخدمها في الأمور الاجتماعية والعاطفية، فصار التواصل منزوع الدسم، منزوع القيمة والأهمية، كان الناس من قبل في صلتهم بالأرحام يهتمون بالتزاور والتواصل الحي المباشر، فقد اتسم شهر رمضان بهذه الميزة، ولذا سماه الفقيه الكبير الدكتور يوسف القرضاوي: ربيع الحياة الإسلامية، لأنه يعيد للمسلم الحيوية والنشاط دينيا بالعبادة، واجتماعيا بالتواصل والتزاور مع أرحامه وجيرانه.
جاءت الوسائل الحديثة لتقرب المسافات بين الناس، فالبعيد لم يعد بعيدا بها، فقربت مسافة التواصل والود بين الأهل ممن كتبت عليهم الغربة في بلاد شتى، ولكن تحولت هذه الوسيلة التي قربت البعيد، وسهلت التواصل، إلى وسيلة بلاستيكية لا روح فيها، فأصبحت رسائل كل رمضان، وكل عيد، رسائل مكررة، وصور متشابهة، بلا روح، بلا إحساس حقيقي، ليس على مرسلها سوى نسخها (كوبي بيست) ثم إرسالها عبر مجموعات بريدية، تصل لأبيه وأمه وإخوانه وأهله مثلما تصل للغريب الذي لا يربطه به سوى وجود رقمه على هاتفه ضمن جهات الاتصال.
وأصبح من تصله الرسالة، هو الآخر قد أعد رسالتين، رسالة يرسلها بادئا بالتهنئة، ورسالة أعدها للرد على من سبقه بالتهنئة، مهما امتلأت مثل هذه الرسائل بالعبارات الفخمة، واللغة الرقراقة، والكلام المنمق، لكنها خالية من عاطفة حقيقية، وخالية من تأثيرها، حتى لم تصل لربع ما كان يحدث من اتصال مباشر من قبل، سواء باللقاء وجها لوجه، أو بالاتصال بالهاتف بالتهنئة، وهذا من سبليات التواصل الإلكتروني في جهة واحدة، وهي جهة التواصل الاجتماعي، وصلة الأرحام، تلك الصلة التي حث القرآن الكريم عليها في آيات عدة، ونهى عن كل ما يؤدي إلى تقطيع الأرحام، منها قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم) محمد: 22. وحث عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "ثلاث يزدن الأعمار، ويباركن الأرزاق: صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار".
الأمر الآخر الملفت للنظر في الصوم، هو الكم الهائل من الانشغال عن الصوم والطاعة بالتواصل الإلكتروني، فتجد الصائم ممسكا بهاتفه، يقلب ببصره ليل نهار فيه، يظل بالساعات على الفيس بوك يقرأ ما يكتبه فلان، وعلان، ثم يعلق هو، ثم ينتقل منه إلى الواتس أب، ثم إلى وسائل أخرى، وتجد لا تمر ثواني إلا ورنات الرسائل تصدر إما بالصوت، أو بالضوء عند كتم الصوت، وعين الإنسان عليها، لا تغادر الهاتف، أو الآيباد، أو ما تيسر له مما يتابع به كل هذه الوسائل، وصارت هذه الوسائل التي سخرت لاختصار الزمن للإنسان للإنجاز في أعماله، صارت تشغله عن شهر ينتظره كل عام لمغفرة الذنوب، تحت دعوى: الاستفادة الدينية من كل ما يكتب، تضيع الأوقات بالساعات، دون ذكر لله، ودون عمل صالح، ودون تواصل حقيقي مع رب الناس سبحانه، في شهر في ليلة خير من ألف شهر، لسنا من المشايخ الرجعيين الذين نرفض مستحدثات العصر، بل نرحب بها، شريطة ألا تؤدي إلى ضياع فرائض، وفرص مهمة للإنسان في حياته.
رمضان شهر الإرادة والعزيمة المضاءة للمسلم، تنجح إرادتنا فيه في الصوم عن الأكل والشرب والشهوة، فهل نستطيع أن نصوم عن هذه الوسائل في هذا الشهر، فنستفيد بأوقاتنا، ليجتمع بذلك مع الصوم عن الشهوات المادية، الصوم عن الشهوات المعنوية؛ الصوم الإلكتروني؟!!