بعد أربعة أيام من حفل تتويج قيصر روسيا نيكولاس الثاني وزوجته أليكساندرا،
كان من المقرر أن تقام مأدبة للعامة في حقل خودنكا في موسكو، حيث يعطى كل مشارك
رغيف خبز وقطعة من السجق، وقطعة بسكويت مملحة، وقطعة حلوى بالزنجبيل وكوبا تذكاريا.
سرعان
ما انتشر الخبر، فتجمهر مئات الآلاف منذ مساء اليوم السابق بانتظار الحصول على الهدايا
المجانية. وفي الصباح الباكر، انتشرت إشاعة مفادها أن البيرة قد نفذت وأن الأكواب
التذكارية يوجد بداخل كل واحد منها قطعة نقدية ذهبية. تدافع الجمهور، وسادت حالة
من الهلع، وتساقط الناس فوق بعضهم البعض في أحد الخنادق مما أسفر عن مقتل 1389
شخصا.
علم
الإمبراطور والإمبراطورة بالخبر. في البداية أراد نيكولاس إلغاء مشاركته في الحفل
الراقص الذي كان مقررا في السفارة الفرنسية مساء ذلك اليوم، لولا أن غلبت حكمة من
أشار عليه بأنه لو تغيب فإن من شأن ذلك أن يثير حفيظة الفرنسيين، فمضى الاحتفال
كما كان مقررا له.
زار
نيكولاس وزوجته موقع التدافع بعد أن أخليت منه جثث القتلى، ثم ذهب إلى الحفل
الراقص وشارك فيه. اشتهرت تلك الحادثة بفاجعة خودنكا، وكرست تقليدا روسيا قديما من
الرقص على جثث الموتى.
جاريد
وإيفانكا وحقوق الإنسان
لا
يمكن لجاريد وإيفانكا كوشنر التعذر بالجهل: فهما لا يعيشان في روسيا القيصرية حيث
كانت الأخبار تنتقل ببطء شديد. فبينما كانا ضمن حشد تجمع في حديقة القنصلية
الأمريكية السابقة في أرنونا بالقدس يوم الإثنين، تسرب القلق إلى أوساط التجمع
الاحتفالي المرح بينما كان عدد القتلى في غزة آخذ في الارتفاع.
عندما
كتبت هذه السطور كان عدد القتلى قد وصل إلى اثنين وأربعين وعدد الجرحى إلى 1700،
كلهم بطلقات نارية حية، ولكن ذلك لم يكن كاف للحد من حماسة المجتمعين. ولم يخطر
ببال جاريد ولو للحظة واحدة أن يعدل من نص كلمته. كانت المهدوية تبرق في عينيه،
كما لو أنه ابتعث ليبلغ الناس بالرسالة الحق.
بدأ
كلامه بالقول: "أشعر بفخر شديد لوجودي هنا اليوم في القدس، القلب الخالد
للشعب اليهودي. نقف معا لأننا كلانا {أمريكا وإسرائيل} نؤمن بالحرية." ثم مضى
يقول: "نقف معا لأننا كلانا نؤمن بحقوق الإنسان. نقف معا لأننا نؤمن بأن
الديمقراطية تستحق أن يدافع عنها."
لا
يقتصر الأمر على أنه كان موجودا هناك كممثل لرئيس الولايات المتحدة وإنما كوسيط
للسلام. وبكونه وسيطا للسلام، هذا ما قاله عن المذبحة التي كانت تجري في نفس تلك
اللحظة على بعد خمسة وسبعين كيلومترا من المكان الذي وقف فيه: "أولئك الذين
يثيرون العنف هم جزء من المشكلة وليسوا جزءا من الحل."
ولا
يعذر آل كوشنر أنهم كانوا شهودا على كارثة، كتلك التي نجمت عن تدافع البشر. كان
القتل الجماعي متعمدا ومع سبق الإصرار. ما كان يفعله القناصة الإسرائيليون هو
العمل حرفيا بما كان يمليه عليهم وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان، الذي صرح لصحيفة ذي
جيروساليم بوست في الثامن من إبريل / نيسان بأنه لا يوجد ناس أبرياء داخل قطاع غزة.
واليوم
بعثت هند الخضري، المتعاونة مع ميدل إيست آي، برسالة من غزة تقول فيها: "كل
ما شاهدته خلال الساعة الماضية هو الدم النازف من رؤوس ورقاب وصدور الناس التي
أصيبت. راح الإسرائيليون يطلقون النار بشكل عشوائي على المتظاهرين بمجرد أن حاولوا
اختراق السياج، ومازالت بعض الجثث عالقة هناك، ولا تستطيع سيارات الإسعاف الوصول
إليها."
وأما
سوسن زاهر، المحامية التي تعمل في مجموعة حقوقية فلسطينية اسمها العدالة، فقالت:
"كان صوت القنص شديدا، كما سمعنا أصوات الدبابات، وما سمعناه وما رأيناه
تعكسه تماما الأعداد المرتفعة للوفيات."
سرعان
ما امتلأت ثلاجات المشرحة في مستشفى إندونيسيا شمال غزة، واكتظت المساجد كذلك
بالجثث. وفي تصريح للجزيرة، قالت مرام حميد: "الجرحى ممددون على الأرض – لم
يعد يوجد أسرة لإيوائهم. المستشفيات مكتظة. تسود المستشفيات حالة من القلق، لم
تتوقف سيارات الإسعاف عن القدوم، والثلاجات امتلأت بالجثث، ويتجمع المئات من الناس
من حولها، وقد هالتهم أنباء مقتل أحبائهم."
هجوم
جراحي على ضمير كوشنر
على
الرغم من كل ذلك استمر الحشد المرح في حديقة القنصلية يصفق، وظل الحضور يهبون
واقفين كلما هنأ كوشنر حماه على التحلل من الصفقة مع إيران التي وصفها بالخطرة
والمعطوبة وأحادية الجانب.
العالم
الخارجي، ذلك العالم الذي فيه يعيشون فعليا، بدمائه النازفة، بأعضائه المبتورة
ومعايشه المدمرة، تم فصله جراحيا من ضميرهم. غرد الناطق السابق باسم الجيش
الإسرائيلي بيتر ليرنر قائلا إن الغزيين كانوا يسعون إلى تخريب الحفل. لابد أنها
كانت أفكار القيصر وزوجته أيضا.
عند
الانتهاء من كتابة هذا المقال وصل عدد القتلى إلى اثنين وخمسين والجرحى إلى 2400.
أقل
ما يقال في قيصر روسيا أنه أبدى ما يدل على الحزن والأسى، أما سادة الأرض في هذا
الزمن فلا يبدون شيئا من ذلك.
وقع
تدافع خودنكا في عام 1896، أما مذبحة غزة فإنها تجري الآن بالضبط، وأمام أعيننا.