هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ثمة وجهان اثنان للمسألة المطروحة:
+ الوجه الأول ويتمثل في التعامل مع هذه الإشكالية من زاوية ثنائية التقليد والحداثة. ومؤدى هذا التعامل أن طرح العلاقة بين الدين والتكنولوجيا هو شبيه وإلى حد بعيد، بذاك الطرح التقليدي الذي كان ولربما لا يزال يتساءل في علاقة الدين بالعلم أو في علاقة الإيمان بالعقل.
بيد أن المعالجة من هذه الزاوية غالبا ما تضع وجها لوجه الدين، باعتباره تقليدا يحيل على نماذج من الماضي تجووزت، والتكنولوجيا باعتبارها حداثة تفعل في الحاضر وتجتهد لاستباق المستقبل.
يترتب على هذه المقاربة نتيجتان اثنتان:
- النتيجة الأولى أن هذه النظرة غالبا ما تفضي إلى خلاصة ألا توافق ممكن بين طرفي المعادلة، الدين والتكنولوجيا، إذا لم يكن من زاوية الطبيعة والطابع، فعلى الأقل من جهة الخلفية ومنطق الإحالة.
- أما النتيجة الثانية فتحيل على موقف كلا الطرفين من بعضهما البعض. الوارد هنا، والحالة هاته، أن الدين سيرفض التكنولوجيا حتما، وهذه الأخيرة ستتنكر للدين لا محالة، لا سيما وهي ترى كيف أن وقعها كبير على مستوى تنظيم حياة الأفراد والجماعات.
يجب أن ننتبه هنا إلى أن إلصاق التقليدية بالدين لا يضمر أي حمولة قدحية، قد توحي بالرجعية أو بالتجاوز. على العكس من ذلك تماما. كما أن إلصاق الحداثة بالتكنولوجيا لا تعني أنها رديف لها، بقدر ما تعني أنها نتاج علاقة مستجدة للبشر معها.
ومع ذلك، فإن الذين يقرؤون العلاقة بين التكنولوجيا والدين (والإسلام فيما يخصنا في هذه المقالة) من منظار التنافر والتمنع، لا تعوزهم "الدفوعات" في ذلك:
- ففي حين، يقول هؤلاء، إن الإسلام يفرز حضارة الخضوع لله وللقرآن الكريم، فإن التكنولوجيا تحيل على "حضارة خضوع الإنسان للطبيعة ولتحولاتها".
- وفي حين، يتابع هؤلاء، أن الإسلام يركز على الأصول الأولى للرسالة في صفائها ونقائها، فإن زمن التكنولوجيا يحيل على التقدم والإبداع، وعلى الحياة العملية الأفضل التي يوفرها.
- كما أنه في حين، يؤكد هؤلاء، تركز التكنولوجيا على التطبيقات العملية وعلى التجارب الفعلية، يبقى الإسلام (المسلمون يقصدون) رهيني علوم نظرية، لم تستطع إفراز نخب تحول هذه المعارف إلى تطبيقات ومنتوجات تفيد منها البلاد والعباد.
من الطبيعي، والحالة هاته، أن يرد أصحاب الأطروحة المقابلة برفض كل ما سبق، لا بل واعتباره تحاملا مجانيا على الإسلام وعلى المسلمين.
وحجتهم في ذلك هو القول بأن الإسلام إنما هو دين العقل بامتياز، وألا تناقض بينه وبين العلم إطلاقا، بدليل أن التاريخ يثبت أن العالم العربي/الإسلامي كان مهد العلوم الغربية غرفت منه ولعقود طويلة خلت، وأن تراجعهم في ذلك إنما مرده عوامل كثيرة، لعل أقواها على الإطلاق ظروف الاستهداف والاستعمار التي تعرض لها.
ولذلك، فهؤلاء لا يعتبرون التكنولوجيا نتاجا غربيا، بقدر ما يعتبرونها نتاجا كونيا، أسهمت كل الحضارات (وضمنها الحضارة العربية/الإسلامية) في تراكماته ومنجزاته، لا بل إن العديد من الدول الإسلامية لا ترى حرجا في استيراد التقنيات، أو تكوين الخبرات العلمية والفنية كجزء من مشروعها التنموي العام.
أما الوجه الثاني للمعادلة المطروحة، معادلة الإسلام والتكنولوجيا، فيحيل على إشكالية الثنائية بين التقليد والنهضة.
ليس ثمة تصور واحد موحد بالإمكان الارتكان إليه لفهم هذه الإشكالية، إلا أننا نجد توجهات مختلفة بالإمكان اختصارها في الثلاثة الأساسية ضمنها:
- التوجه الأول، توجه راديكالي صرف، يؤكد على ضرورة الاحتكام الحرفي لنص القرآن في التفكير كما في السلوك.
إلا أن هذا التوجه، وإن كان لا يرفض التكنولوجيا جملة وتفصيلا، فإنه يرفض الانبهار بمستجداتها أو الخضوع لتوجيهاتها، أو اعتبارها العنصر المحدد لباقي العناصر.
إن هذا التوجه لا يمنح "استقلالية" ما للتكنولوجيا. إن وجودها، بنظره، يجب أن يخضع "للوجود الديني" تحت مسوغ ألا عيب في أن يكون سلوك الفرد تقليديا، وأن تكون ممارسته عصرية أو حداثية. لكن المحك في السلوك كما في الممارسة إنما يجب أن يكونا في خدمة الدين بهذا الشكل أو ذاك.
- التوجه الثاني ومفاده أن التأويل الإسلامي (والاجتهاد تحديدا) لا يجب أن يقف عند "حقيقة" أن الإسلام يدعو إلى النشاط التكنولوجي، ولكن أيضا إلى أن هذا النشاط "لا يجد هويته إلا في خدمة الإسلام". ومما يؤكد ذلك، من وجهة النظر هاته، أن الإسلام إنما عمد قصدا إلى حصر مجال الممنوع، وترك الباقي مباحا، أي خاضعا للاجتهاد والتدافع.
- أما التوجه الثالث فيرى بأن تحقيق النهضة لا يجب أن يقتصر على التكنولوجيا، باعتبارها تقنيات تدخل في هذا المسلسل الإنتاجي أو ذاك، بل يجب أن يتبع ذلك تفعيلها لتطاول البنى الفكرية والاجتماعية التي تفعل ذات التكنولوجيا فيها وتتفاعل معها.
التكنولوجيا هنا لا تتعايش فقط مع هذه البنى، بقدر ما تدفع بجهة تطويرها وتكييفها ولم لا "تثويرها" من الداخل، إن كانت حقا وحقيقة عصية على التحول، غير عابئة بتطلعات وآمال النهضة.
إن القصد مما سبق، ليس إثبات أو نفي التوافق أو التنافي القائمين أو المفترضين بين الإسلام والتكنولوجيا.
القصد إنما إعمال البحث عن وفي جوانب التفاعل التي تقوم (أو هي قائمة) بين "ظاهرتين" متنافيتين في مظهرهما، لكنهما محفزتين لبعضهما البعض في الزمن والمكان.