هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تساءل الفيلسوف اللبناني "رونيه حبشي" منذ خمسة عقود قائلا: "أيها الشرق، ما هو غربُكَ؟"، والحقيقة أنه تساؤل لازال يحتفظ برهنيته الحارِقة كلما أثيرت العلاقات بين الشرق العربي ـ الإسلامي والغرب. فكيف جرى إدراك مختلف أشكال اللقاء والتقارب والتوتر بين المشرق العربي والغرب؟ وكيف يحضر الغرب في المتخيل العربي الإسلامي؟ وأيُّ غرب يسكن الذاتَ العربية الإسلامية، طالما أنه متعددً وليس كياناً واحداً وموحداً؟
تنبع وجاهةُ مثل هذه التساؤلات من ضغط النظرات المتبادلة بين الذات العربية الإسلامية و"الآخر"، أي الغرب، كما تستمد أهميتَها من خطورة الأحكام الجاهزة التي ساهمت في تعليب الوعي الغربي حُيال الإسلام كعقيدة وتاريخ، أي إزاء تجارب صنعها بشرً موسومين بطبعهم بالصواب والخطأ. فكما نسج الغربيون قاموساً من الصور النمطيةً عن الإسلام، عن النبي محمد، وعن العرب، تداول هؤلاء أوصافاً ونعوتاً عن الغرب، قوامها التوجس والشك وسوء التقدير، فكانت النتيجة أن تكوَّنت حالةً من التوتر المتبادل بين الطرفين، فسادت الحيطة والحذر، لدرجة غدت صورةُ الآخر تخطيطيةً فقيرةً، بسبب الإصرار المتواصل على إغفال واقعيتِه لصالح تمثُّلِ تسطيحي وتبسيطي.
بيد أن السؤال المحوري الذي هيمن ويهيمن على مسار تيارات الفكر العربي الإسلامي، هو كيف يمكن للعالم العربي الإسلامي معرفةَ ذاته وتحديدَ موقعه بالقياس إلى ما يجري في الغرب؟ ومما أضفى قدراً من الشرعية على هذا السؤال تلك العلاقة غير المتكافئة بين العرب والغرب، إذ أصبحت النهضة في الغرب واقعاً ملموساً، في حين لازالت مشروعاً أو طوبى في المنطقة العربية، وقد تولَّد نتيجة هذا المسار التاريخي نوع من توزُّع النخبة وتمزُّقها بين نموذجين أو مرجعيتين: نموذج "الآخر" (الغرب)، الذي استقامت نهضتُه وشرعَ في استثمار ثمارِها وتجديد ذاتِه من امتداداتها الخارجية، ونموذج "الأنا"، الذي تحقق في الماضي ويجُرُّ معه تاريخاً ثقيلاً، ومن اللاّفت للانتباه أن الأمر لم يتوقف عند حد التوزُّع، بل تحوَّل إلى رهان مرجعي انقسمت النخبة بشأنهِ، بين من يرفض الغربَ جملةً وتفصيلاً، على خلفية استعماره الشعوب ونهب خيراتها وتشويه هويتها، ومن يدعو إلى فهم أسباب تقدمه والاستفادة من مكاسبه، دون التفريط في نقط قوة " الأنا"، ولا التهاون في الاعتراض و نقد مظان ضعفها، وقد ظلت هذه الثنائية ناظمةً وعيَ النخبة العربية الإسلامية حُيال "الآخر"، أي الغرب ثقافةً وقيماً وحضارةً.
لعل من المفارقات اللاّفتة ذلك النكوص الحاصل في رؤية العرب والمسلمين للآخر في العصر الحديث قياساً مع نظرتهم خلال العصر الوسيط، فقد ظلت الثقافة العربية على امتداد هذه الحقبة التاريخية الطويلة موسومةً بالانفتاح والانخراط الإرادي في عملية التعلم والإنصات بكل خشوع، بينما نجد الثقافة العربية المعاصرة نفسها مضطرةً إلى دفع الثمن من توازنها وثقتها في ذاتها.
يُرجعُ البعض ذلك إلى أن العرب في العصر الوسيط، كانوا يعيشون علاقاتهم مع الآخر في ظروف من التقدم والنهضة الحقيقية للحضارة العربية الإسلامية، إذ لم يحرجهم أبدا النهل من الآخر والأخذ عنه، في حين أن المثقفين والإعلاميين العرب الحاليين، مهما كانت أداةُ واسِطَتهم، هم مجبرون على إدماج النسق الثقافي الغربي في منظومتهم تحت ضغط شعور عميق بالهزيمة. وهذا هو الذي يميز بدرجة كبيرة بين ثقافة الغالب وثقافة المغلوب، بين ثقافة الشراكة وثقافة مسكونة بعقدة الدونية؟ فهكذا، يحضر الغرب أو يتمُّ تمثلُه كغازِ أو غالب أخذ ثأرَه التاريخي من الإسلام والحضارة العربية الإسلامية.
نحن إذن أمة معرضة إلى الغزو بجميع صوره: هكذا يفكر القوميون والإسلاميون. فالغالِب – الغرب ـ يمتلك كل أسباب الانتصار. فله الثروة، والمصانع، والتقدم التقني، والعقل العلمي، والموارد البشرية ذات الكفاءة، وللعرب جميع الإمكانيات للوصول إلى نهضة، ولكنهم أساؤوا استثمارها وبدَّدوها ونهبوها.
وليس الغرب بعيداً عن هذا النهب أو عن فشل الحداثة العربية، فباستعماره الدول العربية اقترح حداثةً مشوهةً، منقوصةً لم تتحقق أبدا، وما يزال يُواصل عرضَ هذا النموذج المشوَّه. صحيح أن العرب يُؤاخذون عن سلبيتهم، وتخلفهم، ولكن "الغزو" ظاهرةً مُتعددة الأبعاد تشمل الاقتصاد والاجتماع والثقافة.
بيد أن النخب العربية والإسلامية منقسمة في فهم الخصائص الجديدة التي تميز الغرب.
يتباكى البعض على ضياع القيم الأصلية، بسبب الحضارة التقنية، ويرى البعض الآخر في "الغزو الغربي" محواُ للكيان العربي الإسلامي وخسارةً تدريجية للرأسمال الرمزي الذي يؤسسها.، في حين علينا أن نعترف أننا محتلون، وأننا نعيش في بعض الأحيان، شكلا مأساويا من الاستيلاب، وأن الصهيونية مدعومة من الغرب تستولي على أراضينا وتعوق وحدتنا. كل هذا، صحيح، ولكننا مسؤولون عن وضعنا الراهن. فلقد جربنا كل أشكال الحكم، فكانت الثورات الشعبية، ونظمنا انقلابات، وتحالفنا مع الاتحاد السوفياتي ومع الولايات المتحدة الأمريكية، وطبقنا "الشريعة في بعض الأحيان".. ولكن الأنظمة السياسية القائمة لم تدِّخر أي شيء من أجل وضع أجهزة قمع خانقة لكل الحريات ولروح النقد والمبادرة.
إن الغرب الغازي المعتدي يعود بقوة إلى الأراضي العربية الإسلامية خاصة مع غزو العراق وتفتيته، والانتقال التدريجي إلى البلاد الواردة في القائمة: سوريا، ليبيا، اليمن.. الخ. غير أن علينا أن نعترف، كما يلاحظ بعض المثقفين الإعلاميين، أن الخلافات العربية، والحروب المدمرة، وتهريب الثروات العربية إلى الخارج، وهجرة الأدمغة، وغياب الديمقراطية، وسحق الشعوب العربية من قبل الأنظمة الفاسدة.. كل هذا يمُكِّن الآخر من اجتياح الأراضي، واستغلال الثروات والمس بالهوية. إنه " الآخر" الذي يعيش فينا بهذا الواقع، ويحضر في مُخيلتنا السياسية بمواصفات أخرى.