هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تناقلت وكالات الانباء اخر الاسبوع الخبر التالي: "قالت الحكومة التونسية يوم السبت إنها قررت رفع أسعار البنزين والوقود بنحو ثلاثة بالمئة للمرة الثانية خلال ثلاثة أشهر ضمن حزمة إصلاحات يطالب بها المقرضون الدوليون لخفض العجز." (رويترز)
قبل ذلك بايام قليلة تناقلت ذات المصادر: "دعا صندوق النقد الدولي، حكومة تونس، إلى زيادة ربع سنوية في أسعار المحروقات، عبر تفعيل آلية التعديل الدوري، ما يشير إلى إمكان رفع السعر، بداية من إبريل/نيسان المقبل. وأوصى صندوق النقد الدولي، في بيان له أمس الأربعاء، الحكومة التونسية، باتخاذ إجراءات قوية لمعالجة الوضع المالي للبلاد والموازنة العامة، تتضمن زيادة الإيرادات الضريبية، وكبح زيادات الأجور في الوظائف الحكومية."
السؤال الذي يتبادر فورا لاذهاننا: لما لا يحكم صندوق النقد البلاد بشكل مباشر بلا وسائط رديئة؟ حينها يكون الصراع واضحا وبدون تمييع.
للمصادفة تمر تونس هذه الاسابيع بجدل عام حول السيادة الوطنية و"كشف الحقيقة" حول "دولة الاستقلال"، اثر نشر هيئة الحقيقة والكرامة، المؤسسة المعنية اساسا بمسار العدالة الانتقالية، وثائق تبين هشاشة سيطرة الدولة الوطنية على ثروات البلاد اثر "الاستقلال" وقدرة السفير الفرنسي على تحويل صفقات تخص الثروة النفطية لشركات بلاده بمجرد تدخل مع وزير الصناعة، وهنا نتحدث عن بداية السبعينات وليس اشهر فقط اثر الاستقلال. غير ان الجدال حول السيادة الوطنية لا يهم الماضي بل يهم خاصة واساسا الحاضر، ولو ان الحاضر امتداد للماضي بلا شك.
صندوق النقد والبنك الدولي اشادا كلاهما باستمرار بنظام بن علي، وكتبا تقارير في هذا الاتجاه اشهر قليلة قبل الثورة. ومباشرة بعدها عدلا في خطابهما وعبرا عن بعض النقد الذاتي. غير ان تعاملهما مع الملف التونسي لا يعكس انهما استفادا من دروس تجارب "الاصلاحات الاقتصادية" التي عمقت من الصعوبات وحولتها الى ازمات. خيارات قائمة على مصادرات نظرية نيوليبرالية يتم تطبيقها كوصفات جاهزة على اي مكان وفي كل زمان بدون اي اجتهاد.
هذه الوصفات الجاهزة تتضمن عادة نفس العناصر. فعند تقديم القروض للبلدان يجعل صندوق النقد الدولي القرض مشروطًا بتنفيذ سياسات اقتصادية معينة. تميل هذه السياسات إلى تضمين: الحد من الاقتراض الحكومي - ضرائب أعلى وإنفاق أقل، أسعار فائدة أعلى لتحقيق الاستقرار في العملة، السماح للشركات الفاشلة بالإفلاس، التكيف الهيكلي. الخصخصة، ورفع القيود، والحد من الفساد والبيروقراطية.
ليس المشكل بالضرورة مع كل هذه العناصر فبعضها ضروري بل محمود (مقاومة الفساد). المشكلة هي أن سياسات التكيف الهيكلي والتدخل الاقتصادي الكلي يمكن أن تجعل الأوضاع الاقتصادية الصعبة أسوأ.
على سبيل المثال، في الأزمة الآسيوية لعام 1997، طلب صندوق النقد الدولي من العديد من الدول مثل إندونيسيا وماليزيا وتايلاند اتباع سياسة نقدية صارمة (أسعار فائدة أعلى) وسياسة مالية صارمة لتخفيض عجز الموازنة وتعزيز أسعار الصرف.
ومع ذلك ، تسببت هذه السياسات في حدوث تباطؤ طفيف تحول إلى ركود خطير مع مستويات عالية جدًا من البطالة. وفي عام 2001، أُجبرت الأرجنتين على سياسة مماثلة لضبط النفس المالي. وقد أدى ذلك إلى انخفاض الاستثمار في الخدمات العامة مما أدى إلى الإضرار بالاقتصاد.
الانتقادات لصندوق النقد في السياق التونسي تم التعبير عنها بشكل ادق واكثر علمية واقل شعبوية في مقال جديد للباحثة الايطالية كلارا كابالي على موقع The Bretton Woods Project اخر شهر مارس الفارط.
تقول كابالي خاصة فيما يتعلق بالسياسة التي فرضها صندوق النقد فيما يخص تخفيض سعر الصرف: "تستند دعوة صندوق النقد الدولي لسعر صرف مرن على فرضية أن عملة أضعف ستكون حافزاً للصادرات.
ومع ذلك ، فإن إيمان صندوق النقد الدولي بفوائد هذا النهج يتجاهل تمامًا طبيعة قطاع التصدير التونسي فضلاً عن العواقب الوخيمة التي تترتب على انخفاض قيمة العملة في الاقتصادات المعتمدة على الاستيراد.
" تواصل كابالي: "يعتمد قطاع التصدير في تونس في المقام الأول على العمالة ذات الأجور المنخفضة، والتي تتكون بشكل رئيسي من الصناعات ذات القيمة المضافة المنخفضة، والسياحة منخفضة التكلفة والخدمات الرخيصة، مثل مراكز الاتصال المملوكة لشركات أجنبية.
لم يُشاهد بعد نهوض كبير في الصادرات التونسية، ولكن حتى لو تحقق ذلك ، لا تزال هناك شكوك حول عدد وجودة الوظائف التي قد تخلقها.
في الواقع، تعتمد تونس بشدة على الواردات لاجل الاستهلاك ولا تكاد تستفيد من الموارد المحلية. وفي حين أن النمو المطرد القائم على التصدير غير مؤكد."
كابالي تستخلص فيما بعد: "تكشف هذه السياسة عن ضعف فهم صندوق النقد الدولي للاقتصاد التونسي وعدم القدرة على تصميم بدائل لسياسات التنمية الكلاسيكية الجديدة، التي تعطي الأولوية للاستقرار المالي الذي يقوده العرض على العمالة اللائقة والعدالة الاجتماعية.
أولاً، لا يمكن لاقتصاد صغير يعتمد بشكل كبير على علاقاتها الاقتصادية مع الاتحاد الأوروبي أن يستفيد من انخفاض قيمة العملة إذا لم يكن مدعوماً بتدابير تعزز التحول الهيكلي وتحمي المستهلكين من معدلات التضخم المرتفعة.
ثانياً، تستند ثقة الشركات والمستثمرين الى مجموعة متنوعة من العوامل، ولا تؤدي بالضرورة إلى خلق وظائف مستدامة ونزاهة.
ثالثًا، لا تعني التنمية الهندسة الاجتماعية والاقتصادية: فالتعبير "إصلاحات جيدة التصميم وتنفيذ جيد ومتوازن اجتماعيًا" يعني أنه يجب تبرير إجراءات التقشف باسم رؤية ميكانيكية للسياسة الاقتصادية."
هذه الانتقادات تكاد لا تستمع اليها في السياق التونسي من قبل اقتصاديين تونسيين الا في حالات نادرة.
اذ تبدو الاوساط الاقتصادية التونسية السائدة تحت رحمة الخطوط الحمر لصندوق النقد. بينما تتجه غالبية الاطراف السياسية الى تبني نفس عناصر الخطاب التي تكرر بلا اي تردد اجندة صندوق النقد بوصفها التعبير الامثل على معنى "الاصلاحات".
ولهذا فان هذه الوسائط الرديئة التي تكرر بشكل ببغائي ما يصدر عن "توافق واشنطن" انما تميع الجدال الحقيقي الذي يجدر ان يكون مع السيد وليس مع الخادم.