هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
مرة أخرى، يعود شبح حمل السلاح خيارا أوحدَ للدفع بحل ممكن لقضية الصحراء المغربية المستمرة منذ أكثر من أربعة عقود. الجديد في الموضوع أن التهديد آت من الحكومة المغربية بعد أن ألفنا سماع أسطوانة إعلان الحرب من قياديي جبهة البوليساريو.
والقاسم المشترك، أن تحركات الجانبين تكاد تصادف شهر أبريل من كل سنة باعتباره موعدا قارا يتلقى فيه مجلس الأمن تقريرا من الأمين العام للأمم المتحدة بخصوص القضية لا يخرج، منذ سنوات، عن طلب تمديد مهمة المينورسو المكلفة بمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار منذ العام 1991. الأكيد أن قرار الحرب لا تملكه أطراف "النزاع" لكن التهديد به أمر ميسر للجميع.
في جوابها على رسالة موجهة من الممثل الدائم للمملكة المغربية بمقر الأمم المتحدة، نفت المنظمة، على لسان المتحدث باسم الأمين العام، رصدها لأي تحركات عسكرية تابعة للبوليساريو في المنطقة المنزوعة السلاح، التي يسميها المغرب "منطقة عازلة" وتعتبرها الجبهة "أراضي محررة"، قبل أن يضيف أن ذلك لا يعني مساندة طرف ضد آخر بل نقلا لما رصدته قوات المينورسو المرابطة في المكان، وهو ما استدعى ردا من رئيس الحكومة المغربية اعتبر خلاله أن "لا تشكيك في الرواية المغربية" بالنظر إلى أن القوات الأممية تلك لا تحظى بإمكانات تسمح لها بالرصد الدقيق لما يحدث في الجهة الشرقية من الجدار العازل، الذي كان المغرب شيده للحد من توغلات مقاتلي الجبهة إلى داخل الحدود المغربية وسلم للأمم المتحدة منطقة عازلة تفصله عن الحدود الجزائرية لتدبيرها تفاديا لأية احتكاكات محتملة مع قوات البلد الجار.
تصريح الأمم المتحدة تحدث عن "قوات عسكرية"، والحال أن المغرب، في تأويله للاتفاق العسكري رقم 1 الموقع بينه والأمم المتحدة، يعتبر المنع يشمل التواجد المدني أيضا وهو ما تلعب عليه البوليساريو منذ أزمة الكركرات، التي كادت تشعل الحرب بين الطرفين منذ أقل من سنتين. انتهت الأزمة يومها بانسحاب أحادي الجانب من الطرف المغربي، بعد تمشيطه للمنطقة لأسابيع، ما جعل الجبهة في مواجهة مباشرة مع الأمم المتحدة دون أن تنسحب كليا من المكان الذي عادت للظهور فيه منذ أيام ك"شرطة مدنية" تكاد تكون قوات جمارك على الحدود الموريتانية.
يستشهد المغرب بمرونة التعامل الأممي مع خروقات الجانب الآخر في الكركرات دافعا يشجع الجبهة على التمادي في محاولة تغيير الوضع القائم المتفق عليه. لأجل ذلك، قرر التحرك، منذ البدء، لتحميل المنتظم الدولي مسؤوليته أو استرجاع المبادرة على حماية أراضيه من كل توغل خارجي.
في المعركة الحالية، يستند المغرب إلى ما تعلنه الجبهة عبر إعلامها من سعي أكيد لنقل عدد من "مؤسساتها" إلى "المناطق المحررة" في المحبس وتيفاريتي وبير لحلو، علما أن المصطلح لم يظهر في خطابات البوليساريو إلا في العام 2006 مع بدء الحديث عن حل سياسي للنزاع. رغبة البوليساريو في إيجاد "إقليم" ترابي يمنحها شرعية ادعاء امتلاك "الدولة" أمر معروف بالنظر إلى افتقادها للإقليم مكونا أساسيا للدولة المزعومة، وتحركاتها الأخيرة سعي واضح لإقامة "دولة بأمر الواقع" تسمح بدعم موقفها في إطار مفاوضات مباشرة مع المغرب رفضها الأخير قبل أسابيع. ولعل في الرسالة الموجهة من الجبهة إلى رئيس مجلس الأمن حيث تطالب بحث المغرب على القبول بالتفاوض المباشر تفسيرا لبعض من تحركاتها الأخيرة في الميدان.
وإذا كانت تحركات البوليساريو مفهومة فإن الإعلان المغربي، لأول مرة، أن كل الخيارات مفتوحة بما فيها "الحل العسكري" يبقى مفاجئا بالنظر إلى ما ميز المغرب من "ضبط للنفس" في تعامله مع دعوات التصعيد المألوفة من الجانب الآخر لعقود. لكن المتتبع لبعض من تطورات القضية على المستوى الدبلوماسي ربما يجد للتصعيد المغربي مغزى. فاستمرار وضعية اللاحرب واللاسلم لعقود طويلة، صار أمرا مكلفا من الناحيتين المالية والدبلوماسية إذ أنه يضع البلد رهينة للتقلبات السياسية العالمية ويجعله حبيس موقف الدفاع بدل المبادرة مع كل ما يملكه من قوة ببسطه للسيطرة على الأرض وعلاقاته مع القوى الدولية المؤثرة. كما أن تغيير إستراتيجيته في التعامل مع مؤسسة الاتحاد الإفريقي قبولا بالدخول إلى صفوفها مع وجود الجبهة بها عضوا، جعلت تحركات "أعداء الوطن" وداعميهم مكتسبة لبعض من شرعية طرح المنظمة الأفريقية بديلا أو شريكا للأمم المتحدة في تسوية النزاع بما يمثله ذلك من خطر داهم على الوحدة الترابية للبلاد.
وإذا أضفنا لذلك ما يصدر بين الفينة والأخرى عن المحكمة الأوربية من أحكام تتعلق بشرعية شمول اتفاقيات التبادل التجاري لمنتجات الصحراء رغم عدم تأثيرها على التوقيع بين الطرفين، وكذا تعيين جون بولتون، المعروف بتأييده للطروحات الانفصالية للبوليساريو، مستشارا للأمن القومي بإدارة الرئيس دونالد ترمب الذي زار سفيره بالجزائر المخيمات قبل أيام، نفهم حاجة المغرب لتحرك سريع وحازم يستعيد به تموقعه كصاحب المبادرة في القضية مع الهيئة الأممية مالكة وحيدة لقرار التسوية الذي بدأته منذ عقود. الواضح أن الأمم المتحدة لا تملك رؤية واضحة للحل بين طرف يدعو إلى استفتاء، ثبتت صعوبة تطبيقه على الأرض، حلا وحيدا وآخر يقدم الحكم الذاتي مخرجا لا تنازل بعده.
ويبدو أن انكفاء المغرب على حل الحكم الذاتي كمبادرة إستراتيجية لا محيد عنها، واكتفائه لسنوات عديدة بردود الفعل سلوكا مشجعا للأطراف الأخرى على المناوشة بحثا عن تسجيل نقاط تجر البلد إلى مواجهة صريحة قد تكون مكلفة من الناحية السياسية بشكل تتحول فيه الرباط طرفا معتديا يمنح لأطروحة "الاحتلال" وهجا في الدعاية الانفصالية. لكن استمرار الأوضاع راكدة، كما هي عليه، أكثر كلفة في الحاضر والمستقبل.
والحرب في النهاية ليست إلا وسيلة من بين وسائل أخرى لتحريك المياه الراكدة ولو من باب التهديد بها أو الدفع بمواجهات جزئية ومحدودة تسمح بتمشيط المناطق المعنية وإبعاد العناصر الانفصالية من محيطها. لا أحد في المغرب أو الجزائر يمكنه تحمل تداعيات حرب طويلة الأمد خصوصا مع ذكريات حرب الرمال ومعركة أمغالا، ولا القوى الدولية بقادرة على السماح بإشعال منطقة أخرى أقرب ما تكون للقارة الأوربية بما يفتحه ذلك من مخاطر مباشرة على الأمن والاستقرار بمنطقة الساحل وجنوب الصحراء المحتضنة لجماعات جهادية تتحين الفرص للانتعاش. الحرب الحقيقية في المنطقة حرب دبلوماسية وقانونية، وما الرحلات المكوكية التي يقوم بها وزير الخارجية المغربي من باريس إلى واشنطن ومنها إلى نيويورك إلا دليل. أما التصعيد الكلامي ولو وازاه تحريك قوات في اتجاه مناطق الصحراء فمجرد بالونات أو قنابل اختبار. الخطير في الموضوع أن وجود القنابل ولو للاختبار يجعلها قابلة للاشتعال.
الصحراء بالنسبة للمغرب لم تكن يوما قضية حدود بل قضية وجود.