هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قبل شهرين من الآن كان يمكن لمحمود عباس أن يسجل اسمه في التاريخ كزعيم فلسطيني رفض الضغوط الأمريكية والإسرائيلية والعربية للموافقة على "صفقة القرن"، خصوصا بعد موقفه الحازم الرافض لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس المحتلة.
كان يمكن لمعارضي عباس من عرب وفلسطينيين أن يتناسوا دوره في كارثة أوسلو وفي حشر المشروع الوطني الفلسطيني في زاوية حرجة غير مسبوقة تاريخيا، وأن يذكروا له مواقفه الجديدة، كما تذكر كثير من خصوم الرئيس الراحل ياسر عرفات صموده تحت الحصار الدولي والإسرائيلي والعربي في سنواته الأخيرة وتناسوا أخطاءه الكثيرة بحق المشروع الوطني.
ولكن التاريخ لا يكرر نفسه دائما، كما أن محمود عباس ليس ياسر عرفات، إذ أظهرت تطورات الأيام الأخيرة أننا أمام سياسي متوتر مأزوم، لا يعرف في أي اتجاه يجب أن يفرغ أزمته. وبدلا من التوجه لتوحيد الجهود الفلسطينية وراء مشروع وطني يشتبك مع الاحتلال توجه عباس للاشتباك مع غزة، وليس مع حركة حماس فقط.
لقد كان خطاب عباس في رام الله في التاسع عشر من الشهر الجاري هو أكبر تمظهر على أزمته، حيث تحدث أمام "القيادة الفلسطينية" التي لم ينتخبها أحد! بلغة لا ترقى لخطاب أي مسؤول صغير فضلا عن رئيس سلطة وحركة تحرر وطني، وخرج عن النص في عبارات أقل ما يقول عنها أنها تصلح لمشاجرات الشوارع لا لاجتماعات قيادة وطنية، حتى ضاعت القضايا الوطنية بين الحديث عن "الصرامي" وعن "ابن الكلب"!
وبعيدا عن لغة الخطاب من ناحية الشكل، فإن مضمونه أيضا كان كارثيا، إذ إنه بدلا من تهديد الاحتلال باتخاذ خطوات تنهي حالة الاستباحة الكاملة للضفة الغربية والقدس وحصار غزة، هدد عباس قطاع غزة بإجراءات "صعبة ومؤلمة"، بهدف "إنهاء الانقسام" و"حماية المشروع الوطني الفلسطيني" والقضاء على "انقلاب حماس"! هكذا تصبح حماس وغزة هي المعضلة وليس الاحتلال الجاثم على صدور طرفي الصراع الداخلي وعلى "جناحي الوطن" كما يحب عباس أن يسمي الضفة والقطاع.
ويبدو أن أهم الإجراءات التي يتحدث عنها عباس هي وقف مخصصات غزة من ميزانية السلطة، وقطع رواتب موظفي القطاع الذين يتقاضون رواتبهم منذ الانقسام من السلطة دون أن يذهبوا إلى أعمالهم بطلب من عباس نفسه بحجة "محاربة انقلاب حماس والدفاع عن الشرعية".
وقد بدأت الأنباء الواردة في الإعلام العبري عن تبليغ السلطة للجنة التنسيق مع الاحتلال أن رام الله ستتوقف عن دفع رواتب موظفي غزة ابتداء من شهر نيسان/ إبريل القادم، وهي خطوة- إن صحت- ستعني أن عباس أصبح كمن يطلق النار على قدميه.
وإذا صحت هذه الأنباء فإن الفلسطينيين سيكونون، غالبا، أمام ثلاثة سيناريوهات كارثية:
أولا: أن يقود منع الرواتب إلى حركة احتجاج واسعة في غزة مدعومة من السلطة ضد حكومة الأمر الواقع التابعة لحماس، وهو ما يعني أن القطاع قد يشهد لا قدر الله مقدمة لحرب أهلية واسعة، أو على الأقل صراعا دمويا بين حماس والقوى التابعة لعباس.
ثانيا: أن يكون قرار عباس جزءا من خطة إقليمية تهدف إلى القضاء على حماس من خلال تمرد شعبي، تتبعه حرب عدوانية جديدة من الاحتلال، وهو ما يعني أن شعب غزة هو من سيدفع مجددا ثمن الحرب القاتلة من دماء أبنائه وبيوته وممتلكاته. ومن المستبعد أن تؤدي هذه الحرب إلى القضاء على حماس وأن تفشل في تحقيق هذا الهدف كما فشلت الحروب السابقة، إلا إذا استغل الاحتلال قرار السلطة ووجود إدارة أمريكية أكثر صهيونية من نتنياهو لشن حرب طاحنة غير مسبوقة، مهما كان عدد الضحايا من المدنيين.
ثالثا: أن تسعى دولة الاحتلال لتخفيف الانفجار من خلال وضع حلول بديلة لميزانية السلطة، مثل اقتطاع جزء من أموال الجمارك التي تقدم من الاحتلال للسلطة وتخصيصه لغزة عن طريق الوسيط المصري، أو من خلال فرض خيار دحلان المدعوم إقليميا وإسرائيليا ليصبح هو بوابة الحل للأزمة.
قد يصعب على أي محلل أو باحث أن يتوقع مآلات ونتائج التصعيد غير المحسوب من عباس تجاه قطاع غزة، ولكننا نرجح أن السيناريو الثالث هو الأقرب لتفكير قيادة الاحتلال وحلفائه الإقليميين.
وبغض النظر عن السيناريو القادم، سواء كان أحد السيناريوهات الثلاثة المطروحة في هذا المقال أو أي خيار آخر، فإن عباس سيسجل في تاريخه إما أنه قاد الفلسطينيين إلى صراع دموي داخلي، أو إلى حرب إسرائيلية عدوانية مدمرة، أو إلى إعادة خصمه اللدود محمد دحلان بكل ما يمثله من أجندات دولية وإقليمية. وفي كل الحالات أيضا، فإن الخاسر الأكبر هو الشعب الفلسطيني، والمشروع الوطني الذي يزعم عباس أنه يدافع عنه بهذه الإجراءات، دون حتى أن يحدد ملامح هذا المشروع وإستراتيجيته العامة.